الملفونو جورج غسّان مقديس أنطون
حلب ـ سوريا
Georgemakdis98@hotmail.com
إعلامي في سورية لقناة Suboro TV
خرّيج كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب
شمّاس رسائلي في كنيسة مار جرجس للسريان الارثوذكس بحلب
عدد صفحات المشاركة 10 صفحات (A4) .
شعبٌ حيٌ مازال يعطي
يسعدني المشاركة في كتاب يجسّد تاريخ الشعب السريانيّ الرهاويّ خلال مئة عام، لأنّني على يقين بأنّ من لا يعرف تاريخه لا يعرف حاضره، ولا يبني مستقبله. كما أنّني واثق من أنّ التاريخ يعدّ منجماً زاخراً بالحكمة، حيث يمكن العثور فيه على المفاتيح الذهبيّة لحلّ مشاكل الحاضر. وأيضاً، أنا مدرك تماماً أنّ دراسة التاريخ ليست مجرّد قصص وحكايات عن العصور السابقة وأحداثها، ولكن يتعيّن علينا استخلاص العبر منها، وأن نكون أكثر وعياً.
أفتخر بحي السريان وبمدينة الرها
في مقدّمة هذا المقال، أودّ أن أخبرك عزيزي القارئ بفخري الكبير عندما يتمّ سؤالي “أين تسكن؟” فأجيب بكلّ اعتزاز “أعيش في حيّ السريان القديم”. قد يكون هذا الحيّ عمرانيّاً ليس بمثل جمال وتنسيق باقي أحياء حلب المعروفة بجمالها، ولكن كيف لا أفتخر بحيّ السريان الّذي يحمل اسم أجدادي الّذين عاشوا في هذه الأرض، وكانوا أوّل السكّان فيها؟ لقد نقلوا رسائل الحبّ والتآخي والتلاقي للجميع من هذا الحيّ. علاوة على ذلك، يعدّ حيّ السريان أحد الأحياء النادرة جدّاً في العالم الّتي تمّ تسميتها استناداً إلى السريان الّذين يعيشون فيها. بالنسبة لي، يشعرني ببهجة كبيرة أنّني سرياني، وأعيش في حيّ يحمل اسم السريان.
كان لي رغبة في البدء بفخري باسم الحيّ الّذي أسكن فيه. لأن هذا المقال يأتي بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى للهجرة الجماعيّة للسريان من “الرها” إلى حلب، وتحديداً إلى “حيّ السريان”. ولكنّ فخري الأكبر يكمن عندما يتمّ سؤالي “من أين أصلك؟”، فأجيب بكلّ فخر “أنا من الرها أو أورفا”. كيف لا يكون لديّ فخر متزايد؟ فأصولي وجذوري تعود إلى أوّل إمارة في العالم الّتي قبلت تعاليم السيّد المسيح. تعود إلى عاصمة الآداب السريانيّة ومنارة تراث الآباء. تعود إلى مدينة الأباجرة. بالنسبة لي، يملأني ببهجة كبيرة أنّني من أحفاد مارّ أفرام السرياني، شمس السريان وكنّارة الروح القدس.
ظروف الحرب القاسية
وهنا، أيّها القارئ العزيز، أودّ أن أشاركك بقراءة وصفيّة للصعوبات الّتي واجهناها نحن الّذين بقينا في حلب نتيجة الحرب، وذلك من منظور شابّ في مقتبل العمر، حيث عاش أعوام شبابه الأولى في أحلك وأقسى الظروف. لقد تضاءلت الأحياء الآمنة نسبيّاً والمجاورة لحيّ السريان، وعشنا لأعوام في قفص صغير، وصوت رصاص الاشتباكات كان يرافقنا يوماً بعد يوم، ولم يكن هناك يوم يمرّ دون رعب مستمرّ، نتيجة الانفجارات والقذائف والصواريخ الّتي استهدفت أحياءنا السكنيّة.
من جهة أخرى، عانينا نتيجة الحرب من ظلام مدقع؛ بسبب انقطاع التيّار الكهربائيّ، ولم يكن النقص في الكهرباء وحده، بل انعدمت معظم مقوّمات الحياة الأساسيّة، مثل الماء والاتّصالات والإنترنت والوقود. وفي بعض الأيّام، انعدمت أيضاً الموادّ الغذائيّة نتيجة لحصار المدينة. وتأثّرت الكنيسة وأنشطتها بكلّ هذه الظروف القاسية الّتي خلقتها الحرب. تقلّصت الأنشطة والفعّاليّات نتيجة القلق الشديد على سلامة أبناء الرعيّة في المقام الأوّل. ونتيجة لمختلف الظروف الّتي ذكرتها سابقاً.
نتائج الحرب
وهنا أودّ أن أشاركك، عزيزي القارئ، بمثال بسيط وعيّنة صغيرة من التغيّرات الّتي طرأت على نشاطات رعيّتنا في حيّ السريان خلال الحرب الأخيرة. ورغم ألمها، إلّا أنّها قدّمت لنا دروساً في الصبر والإرادة والتحدّي.
أتذكّر كيف تغيّر مكان المخيّمات أو أماكن المبيت الشتويّ. في السابق، كانت المخيّمات تقام خارج حلب في مناطق طبيعيّة جميلة وأديرة مميّزة بسحرها. ولكن، خلال الحرب، أصبحت طرق السفر غير آمنة؛ بسبب فقدان السيطرة على بعض المناطق من قبل الدولة السوريّة. ومن ثمّ، تحوّلت أماكن المخيّمات إلى مباني الكنيسة المختلفة في حيّ السريان، سواء كان ذلك في غرف مركز التربية الدينيّة، أو مقرّ الكشّافة، أو في صفوف المدرسة. وعندما تحسّنت الظروف قليلاً، تمّ تنظيم المخيّمات في مناطق وأديرة داخل مدينة حلب.
فتخيّل معي، عزيزي القارئ، كيف تحوّلت هذه الغرف والصفوف إلى مخيّمات تخييم، والأهمّ من ذلك، تخيّل معي كيف كانت إرادة الأطفال والشبيبة لإقامة المخيّمات، وكيف كان إصرارهم ورغبتهم في الاجتماع والاحتفال رغم المخاطر كلّها، حتّى وإن كان مكان المخيّم غير مجهّز.
عندما تحسّنت الظروف الأمنيّة، وعادت طرق حلب للعمل مجدّداً، كانت فرحتنا كبيرة جدّاً؛ لأنّنا الآن نستطيع أن نقيم مخيّماتنا خارج حلب، ونعود إلى حالتنا الطبيعيّة بالسفر إلى أماكن طبيعيّة خلّابة ومجهّزة لاستقبال المخيّمات. والصعوبة الوحيدة الّتي تبقى هي الارتفاع الفاحش في تكاليف المخيّمات، ولولا دعم الكنيسة الكبير لهذه المخيّمات، لما استطعنا تنظيمها.
إيجابيات وسلبيات للهجرة
في هذا المقال، أودّ أن ألفت انتباهك، عزيزي القارئ، إلى وجهة نظري الشخصيّة حول سلبيّات وإيجابيّات هجرة أبناء الرعيّة نتيجة الحرب في سوريا إلى مختلف أنحاء العالم.
من بين أبرز السلبيّات للهجرة بالنسبة لنا الّذين بقينا في حيّ السريان، فقد خسرنا أعزّ أصدقاء الطفولة وأغلى الأقرباء وأعزّ الجيران. شعور الوداع والفقدان وغياب هؤلاء الأشخاص عن حياتنا نتيجة السفر ليس بالأمر السهل إطلاقاً. كلّ يوم نقول وداعاً لشخص ما، ويأخذ جزءاً كبيراً من قلوبنا. وفي كلّ وداع، نبقى نأمل في لقائهم مجدّداً، ولا نعرف متى ستتحقّق هذه اللحظة. لذلك، نردّد في كلّ مرّة مع الفنّانة فيروز: “وإذا الأرض مدوّرة.. رح نرجع نتلاقى”.
من جانب آخر، بالنسبة للكنيسة، فقد خسرت بالفعل قامات كبيرة، ممّن كانوا لديهم خبرة طويلة في خدمة الكنيسة بشكل محترف. لقد عانينا ونعاني من نقص الخدّام في الكنيسة بسبب رحيلهم، سواء كانوا مسؤولين، أو إداريّين في الجمعيّات واللجان والمراكز والكشّافة. وهذا الوضع ينطبق أيضاً على المجتمع والبلاد بأكملها، حيث فقدت سوريا إمكانات علميّة ومهنيّة هائلة.
ومع ذلك، نحن نشكر اللّه؛ لأنّه يكرّس دائماً أشخاصاً جدداً لخدمة بيته. وها هي اليوم، كنيستنا، على الرغم من العدد القليل الّذي بقي نتيجة الهجرة، تزدهر وتستمرّ في رسالتها.
قد يرى البعض أنّ للهجرة فقط سلبيّات، أمّا أنا، وقد تستغرب عزيزي القارئ، أجد فيها إيجابيّات. ففي رعيّة حيّ السريان، لا يوجد عائلة واحدة إلّا، وفيها أقرباء هاجروا نتيجة الحرب الأخيرة وأصبحوا مغتربين. المغتربون، منذ السنوات الأولى لاستقرارهم في بلدهم الجديد، لن ينسوا أن يدعموا مادّيّاً كنيستهم ولجنتها الخيريّة. والأهمّ من ذلك، لن ينسوا أن يدعموا أقرباءهم وعائلاتهم الّتي بقيت في سوريا، وتعيش في أحلك ظروف الحرب الأمنيّة والعسكريّة، والحرب الاقتصاديّة والغلاء والظروف الاقتصاديّة.
صدقاً، كان دعمهم المادّيّ للعائلات الّتي بقيت في حلب كالبلسم الشافي، ولاسيّما نتيجة فرق العملة بين بلادهم وبين سوريّة. فكلّ مبلغ يرسل لحلب هو مهمّ وسبب رئيسيّ برأي لاستمرار حياة العائلات الّتي بقيت.
وهنا أودّ أن أعبّر عن شكري وتقديري لكلّ مغترب يدعم كنيسته وأقرباءه رغم البعد. إنّ دعمكم المستمرّ يعكس روح الانتماء والوفاء والعناية بالمجتمع والأهل.
دور الكنيسة الأم
أودّ أن أؤكّد على الدور الّذي لعبته الكنيسة في حيّ السريان في زرع بذور الخدمة والنجاح والحبّ في قلوب المغتربين في أثناء وجودهم في حلب. ونجد أنّ هذه البذور أثمرت بشكل كبير في بلدانهم الجديدة. يسعدنا كثيراً عندما نشاهد أبناء حيّ السريان، كيف يتجمّعون معاً في كلّ بلد، ويشكّلون تجمّعاً مفرحاً في المناسبات والأعياد، مثل اللقاءات الدوريّة والمخيّمات والحفلات الخيريّة.
وأكثر من ذلك، كيف شكّلوا أخويّات وكشّافات وجوقات ترتيل في بلادهم الجديدة، ونقلوا جميع العادات والتقاليد والألحان والأجواء من حيّ السريان إلى فعاليّاتهم الجديدة. والأجمل في كلّ هذه التجمّعات أنّها سمّيت باسم مارّ جرجس، شفيع كنيستهم الأمّ، أو وسمت بحيّ السريان. وإذا كان هذا يعكس شيئاً، فإنّه يعكس حقّاً عشق المغتربين لكنيستهم في حيّ السريان وعاداتها. فقد رغبوا، رغم بعدهم، في أن يتلاحموا مرّة أخرى، ويعيدوا ذكرياتهم بروح جديدة وحبّ جديد. وهاهم الآن يعطون صورة جميلة عن كنيستهم في حيّ السريان من مختلف أنحاء العالم، وصورة رائعة عن السريانيّ الرهاوي الّذي يخرج من الجافي حلاوة.
ونأمل بشدّة أن تستمرّ هذه التجمّعات والمخيّمات والأخويّات واللقاءات الدوريّة في جميع بلاد الاغتراب، حتّى يظلّ السريانيّ الرهاوي متماسكاً وارتباطه قويّاً بكنيسته الأمّ. وأملنا الأكبر هو أن تستمرّ الجسور الّتي تربط أبناء حيّ السريان في حلب مع المغتربين على المستويات جميعها.
وبالتّأكيد، نحن فخورون جدّاً بالمغتربين جميعهم الّذين رفعوا اسم كنيستهم ووطنهم الأمّ، سوريا، في كلّ بلد يعيشون فيه. إنّهم يمثّلون قيماً وأخلاقاً عالية في أعمالهم وتفوّقهم العلميّ والمهنيّ. ونحن سعداء جدّاً؛ لأنّ الغالبيّة منهم حصلوا على جنسيّة البلد الجديد، ممّا يجعلنا نراهم مجدّداً يزوروننا في حيّ السريان. هذه الزيارات تعيد لنا الفرح من جديد، حيث نراهم بصحّة جيّدة ورزق وفير. ومع وجودهم، نعيد معاً ذكريات الفرح والحبّ.
رعية ملتزمة وغيورة ومميزة
من جانب آخر، أرغب عزيزي القارئ أن أخبرك عن حبّ الالتزام والمشاركة في فعاليّات الكنيسة من خلال اللجان والمؤسّسات، بين أبناء رعيّة مار جرجس في حيّ السريان، ومن مختلف الأعمار. فنجد نادراً جدّاً أبناء الرعيّة الّذين ليسوا ملتزمين، حيث إنّ الغالبيّة الكبرى تلتزم بشكل كبير في الأخويّات ومراكز الرعيّة والكشّافة. وذلك لأنّهم يثقون أنّ هذه اللجان والمؤسّسات الكنسيّة تعزّز الانسجام الروحيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والترفيهيّ للفرد المسيحيّ.
ولا يقتصر الأمر على الالتزام والمشاركة والحضور في اجتماعات اللجان والمؤسّسات الكنسيّة، بل يشمل أيضاً حبّ الخدمة في هذه الفعاليّات كخدّام وإداريّين ومسؤولين. وإنّ تقديم الخدمة في هذا السياق يعكس بلا شك حبّهم للكنيسة ولأبنائها، خاصّة أنّ هذه الخدمة مجّانيّة تماماً وغير مشروطة. فما أجمل الخدمة المجانية في هذه الأوقات الصعبة، وخاصّة من الناحية المعيشيّة والاقتصاديّة.
وهنا، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، أفتخر أنا شخصيّاً؛ لأنّ عائلتي بأكملها تعمل وتخدم وتلتزم في كنيستنا السريانيّة الرهاويّة في حيّ السريان، وذلك لمجد اللّه وبنيان كنيسته. فجدي الخوري شكري توما هو راعي كنيستنا منذ عام 1976، ووالدي غسّان عضو في المجلس المليّ للكنيسة، ووالدتي بربارا رئيسة أخويّة السيّدة العذراء للمرأة السريانيّة. ووالدي ووالدتي أيضاً أعضاء في عائلة التربية المسيحيّة.
أمّا شقيقي فهمي، فهو إداريّ في ثلاث أخويّات وهي: أحديّة يسوع الطفل ومار رابولا للجامعيّين ومار غريغويوس للشبيبة السريانيّة. وأنا بدوري، أخدم كشماس رسائلي في الكنيسة وأعمل من خلال خبرتي الإعلاميّة في تلبية احتياجات الكنيسة من الناحية الإعلاميّة والإعلانيّة. بالإضافة إلى ذلك، أنا إداريّ في أخويّة مار رابولا للجامعيّين. وهذا التعداد مثال بسيط من خلال عائلتي، وهناك العديد من العائلات الأخرى الّتي تخدم بكلّ محبّة وتفان، بحسب الوزنات الّتي تمتلكها.
وأرغب، عزيزي القارئ، أن أخبرك عن ميزات رعيّة مارّ جرجس في حيّ السريان من الجانب الاجتماعيّ الكنسيّ. ففي حيّ السريان، الكنيسة وهمومها وتطوّراتها وأحداثها هي في صلب الأحاديث اليوميّة في كلّ بيت، وفي كلّ مكان يلتقي فيه شخصان.
عندما تلتقي العائلات في المناسبات والأعياد، عادة ما يتحدّثون عن آخر الأخبار السياسيّة والفنّيّة والاجتماعيّة. ولكن في حيّ السريان، يكون الحديث حول الكنيسة ولجانها ومؤسّساتها هو محور الاهتمام. قد يعتبر البعض هذا الموضوع مزعجاً أو غير مهمّ أو نوعاً من السلبيّة، ولكن أنا أجده اهتماماً كبيراً وغيرة كنسيّة بامتياز. فأبناء هذه الرعيّة يحملون غيرة واهتماماً شديدين تجاه كنيستهم وتطوّرها.
وبالإضافة إلى ذلك، جميع أبناء رعيّة مار جرجس يعيشون في الحيّ نفسه، وهذا يختلف عن رعايا كنائس أخرى حول العالم حيث يأتون من أحياء متنوّعة. هذا القرب الجغرافيّ يؤدّي أيضاً إلى تماسك اجتماعيّ كبير ينعكس على تماسك الجميع بالكنيسة.
شغور الأبرشيّة وتعيين وتجليس راعٍ جديد
بتاريخ 27 تمّوز 2022، أعلن قداسة البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني، شغور أبرشيّة حلب السريانيّة الأرثوذكسيّة، بطلب ملح من كهنة ومجالس ولجان أبرشيّة حلب وتوابعها، وبتأييد وموافقة أغلبيّة أصحاب النيافة المطارنة الأجلّاء أعضاء المجمّع المقدّس، وذلك بعد غياب نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، لمدّة تقارب العشرة أعوام، وطلب قداسة البطريرك من نيافة المطران مار بطرس قسّيس الاستمرار كمعتمد بطريركيّ.
وفي زيارته لمدينة حلب في الأوّل من أيلول 2022، اجتمع قداسة البطريرك بكهنة ومجالس ولجان أبرشية حلب، وشرح لهم آليّة انتخاب مطران جديد للأبرشيّة، ثمّ ورد لقداسة البطريرك رسالة موقّعة من كهنة ومجالس ولجان الأبرشيّة، يلتمسون بالإجماع من قداسته تعيين صاحب النيافة المطران مار بطرس قسّيس مطراناً أصيلا للأبرشيّة.
فبعد الصلاة إلى اللّه الّذي يختار الرعاة الصالحين واستلهام الروح القدس، وبصفته الأب العامّ للكنيسة السريانيّة، ونظراً للصفات الحميدة الّتي اختبرها قداسة البطريرك في نيافة المطران من ورع وأمانة في الخدمة، وحرصاً من قداسته على خير ومصلحة أبرشية حلب، وجد من واجبه الأبوي أن يلبّي هذه الرغبة، وقرّر بتاريخ 3 أيلول 2022، تعيين نيافة المطران مار بطرس قسّيس مطراناً لأبرشيّة حلب وتوابعها، ليرعاها على مروج العزّ والتقوى والفضيلة، كما أكّد قداسة البطريرك في رسالة التعيين بالاستمرار بالصلاة من أجل عودة المطران المغيّب مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم.
ومساء يوم السبت 15 تشرين الأوّل 2022، احتفل قداسة البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني، برتبة تجليس المطران مار بطرس قسّيس، على كرسيّ أبرشيّة حلب وتوابعها، وذلك في كاتدرائيّة مارّ أفرام السرياني في السليمانيّة بحلب.
تضمّن الطقس زياحاً للأحبار، إذ رافق المطران الجديد مطرانين داخل الكنيسة، وسط التراتيل ليسير بين الشعب، بعدها قرئ منشور التولية، والّذي أعلن فيه للجميع تعيين مارّ بطرس قسّيس، مطراناً لأبرشيّة حلب وتوابعها، ثمّ ألقى نيافة المطران كلمة التجليس الخاصّة به.
وقد شارك في طقس التجليس أصحاب النيافة المطارنة الأجلّاء: مار ثاوفيلوس جورج صليباً، مطران جبل لبنان وطرابلس، ومار تيموثاوس متى الخوري، مطران أبرشيّة حمّص وحماة وطرطوس وتوابعها، ومار موريس عمسيح، مطران الجزيرة والفرات، ومار أنتيموس جاك يعقوب، النائب البطريركيّ لشؤون الشباب والتنشئة المسيحيّة، ومار يعقوب باباوي، النائب البطريركيّ لشؤون الرهبان وإدارة إكليريكيّة مار أفرام السرياني اللاهوتيّة في معرّة صيدنايا، ومار كيرلس بابي، النائب البطريركيّ في أبرشيّة دمشق البطريركيّة، ومار يوسف بالي، السكرتير البطريركيّ ومدير دائرة الإعلام. ومطران الأرمن الأرثوذكس في دمشق أرماش نالبنديان.
كما حضر أيضاً نيافة الكاردينال ماريو زيناري، السفير البابويّ في دمشق، وأصحاب السيادة رؤساء الطوائف المسيحيّة في حلب: المطران جورج مصريّ، مطران للروم الملكيّين الكاثوليك في حلب، والمطران مار أنطوان أودو، مطران الكلدان في حلب، والمطران يوحنّا جنبارت، ورئيس الكنيسة الإنجيليّة في حلب القسّيس إبراهيم نصير، ورئيس الكنيسة الأرمنيّة الإنجيليّة القسّيس هاروتيّون سليميان، والمدبّر الرسوليّ للّاتين في سوريّة الأب ريمون جرجس، إلى جانب ممثّلين عن رؤساء الكنائس ورسميّين.
رتبة تجليس المطران مار بطرس قسيس على كرسي أبرشية حلب وتوابعها، وذلك في كاتدرائية مار أفرام السرياني في السليمانية بحلب، (١٥ تشرين الأول ٢٠٢٢).
ومساء يوم الثلاثاء 18 تشرين الأوّل 2022، استقبل أهالي حيّ السريان بحلب، راعيهم الجديد نيافة المطران مار بطرس قسّيس، بحشود شعبيّة وكنسيّة كبيرة في مدخل الحيّ بطريقها إلى كنيسة مار جرجس، وتقدّم الحشود الآباء كهنّة الأبرشيّة والمرجعيّات المدنيّة والدينيّة في الحيّ والشمامسة وجوقة الكنيسة والأخويّات وكشّاف مار جرجس وجموع المؤمنين.
ثمّ احتفل راعي الأبرشيّة الجديد بالقدّاس الإلهيّ في كنيسة مار جرجس بحيّ السريان بحلب، بمناسبة تجليسه على كرسيّ أبرشيّة حلب وتوابعها، وعاون نيافته في القدّاس الآباء كهنة الأبرشيّة الخوريّ شكري توما والقسّ جورج كلور والقسّ افرام وزير، الربّان أنطونيوس لحدو كاهن كنيسة السيّدة العذراء في أبو ظبي، بالإضافة لحضور الأب جورج صابونجي كاهن كنيسة مار أفرام للسريان الكاثوليك. وفي ختام القدّاس استقبل نيافة راعي الأبرشية المهنّئين أبناء الكنيسة.
زلزل حلب المدمّر
فجر يوم الاثنين 6 شباط 2023، استيقظ أهل سوريّة والمنطقة عموماً على زلزال مدمّر بشدّة وصلت إلى 7.7 على مقياس ريختر، مركز الزلزال في جنوب شرق تركيّا، وامتدّت آثاره المدمّرة والهزّات الارتداديّة الّتي تبعته إلى شمال غرب سوريّة بما فيها مدن حلب واللاذقيّة.
إنّها المرّة الأولى الّتي تعي فيها الأجيال الّتي تعيش حاليّاً لزلزال بهذه الشدّة، لذلك كان حدثاً قاسياً على الجميع، وترك أثراً سلبيّاً في نفوس وحياة الجميع، ومن بينهم أبناء الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسية في حلب، في الساعات الأولى بعد الزلزال، وفي الليلة الأولى لم ينم أحد في بيته، فتوزّع الناس بين صالات الكنائس، أو فضّلوا النوم في سيّاراتهم كي يشعروا بالأمان النسبيّ.
وخلال ساعات قليلة قامت كنيستنا السريانيّة الأرثوذكسية، بفتح ثلاثة مراكز للإيواء في كلّ من السليمانيّة وحيّ السريان القديم وحيّ السريان الجديد، وقدّمت فيهم ما يلزم لإقامة تحترم إنسانيّة الأشخاص وحاجاتهم.
كما قامت الكنيسة بالإعلان عن استعدادها لتقبّل طلبات من أصحاب المنازل المتضرّرة، للعمل على إصلاحها في القريب العاجل.
وقام قداسة البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني، بزيارة مدينة حلب ثاني يوم حدوث الزلزال، وأطلع أحوال أبناء الأبرشيّة، واختمت الزيارة بإطلاق قداسة البطريرك لحملة لجمع التبرّعات من كلّ السريان في العالم.
وبالتعاون مع كنيستنا، قامت هيئة مارّ أفرام السرياني البطريركيّة للتنمية، إلى جانب عدد كبير من المنظّمات والمؤسّسات والجمعيّات، بتوزيع عدد كبير من الحصص الإسعافيّة والشتويّة والغذائيّة والصحّيّة، لجميع المتضرّرين من الزلزال.
واستمرّ تقديم الدعم المعنويّ والمادّيّ وحملات التبرّع لكنيستا في حلب، من مختلف أصقاع العالم، واستقبلت الكنيسة في حلب شاحنات عدّة مليئة بالمحبّة والموادّ الإغاثيّة.
كما افتتح مطبخ إغاثي ميدانيّ في حيّ السريان، بإشراف كشّاف مار جرجس – الفوج السادس ليقدّم وجبات الطعام يوميّاً لمتضرّري الزلزال.
ولأنّ الأثر المدمّر للزلزال لم يقتصر على الضرر الجسديّ والمادّيّ، بل تعدّاه إلى انكسار روحيّ ونفسيّ لكثيرين، وضعت الكنيسة خطّة إسعافية، لعقد باقة من اللقاءات والنشاطات والمحاضرات، لمختلف الفئات العمريّة في الأبرشيّة للمساعدة على التعافي النفسيّ والتعامل الصحيح مع الصدمات.
وفي نفس الإطار أُضيئت كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حلب، باللون الأحمر حدّاداً على أرواح ضحايا الزلزال، وذلك ضمن أمسية صلاة أقامتها أخويّة مار رابولا للجامعيّين.
كما أعلنت الكنيسة مبادرة إنسانيّة مميّزة، وهي تقديم المعاينات الطبّيّة مجّاناً في مراكزها الصحّيّة طوال شهر شباط.
كلّ هذه المساعدات الّتي ذكرت، ليست إلاّ غيض من فيض ما قدّمته كنيستنا خلال كارثة الزلزال لجميع المتضرّرين، وذلك بإشراف مباشر من راعي الأبرشيّة نيافة المطران مار بطرس قسّيس وبالتعاون مع كهنة ومجالس ولجان الأبرشيّة.
أفتخر بكنيستي
في بداية المقال، عزيزي القارئ، تحدّثت عن فخري بالحيّ الّذي أسكنه وبأصولي الرهاويّة. أمّا نهاية المقال، فهي للحديث عن فخري بكنيستي، وهي كنيسة مارّ جرجس للسريان الأرثوذكس في حيّ السريان بحلب. إنّني أصفها بأنّها جميلة في الشكل والمضمون.
خلال عملي الإعلاميّ مع تلفاز “سوبورو” البطريركيّ، قمت بزيارة مختلف الكنائس والرعايا في سوريا وخارجها أيضاً. ولكلّ كنيسة طابعاً جميل معيّناً بالتأكيد. ولكنّ الطابع الأجمل والأغنى والأعرق الّذي لم أجد له مثيلاً إلّا في كنيستي. فعمرانها الواسع والمريح يجذب الروح والقلب، وألحانها تخطف الآذان، وتنظيمها وترتيبها يلفت الأنظار. وكيفما وصفت كنيستي، لا يمكنني أن أعطيها حقّها الكامل. والأهمّ من ذلك، فهي تحتضن إرثاً مادّيّاً وغير مادّيّ عريقاً جدّاً.
فخزينتها تضمّ إرثاً مسيحيّاً وسريانيّاً عظيماً جدّاً. وكيف لا وناقوسها الّذي يقرع كلّ يوم وحتّى الآن، هو من الرها، الّتي غادرها أجدادي قبل مئة عام، وتركوا فيها كلّ شيء باستثناء كرامتهم وإيمانهم وبعض الأمور الكنسيّة مثل الناقوس الرهاوي الثقيل الوزن.
وها هو الناقوس ما زال يقرع بعد مرور مئة عام، ليصدح بصوته العذب في سماء حلب، ويؤكّد أنّنا “شعب حيّ ما زال يعطي” رغم كلّ التحدّيات والصعاب والهجرات والآلام والحروب والدمار.
الخاتمة
كلمة شكر لهذا الشعب الحيّ الّذي ما زال يعطي في حلب وجميع بلاد الانتشار. كلمة شكر لكلّ من صمد في حيّ السريان، فصموده في أرض الآباء والأجداد هو عطاء بحدّ ذاته.
كلمة شكر لكلّ من يخدم ويدعم كنيستنا بمختلف الوسائل، وأودّ أن أشكر على نحو خاصّ نيافة المطران مار بطرس قسّيس والآباء الكهنة والمجلس الملّيّ وجميع اللجان والمؤسّسات، فعطاؤهم هو أجمل وفاء لرسالة المسيح في حمل الصليب.
من أصغر الكتاب في هذا الكتاب الغنيّ “من هجرة إلى هجرة”. أشكرك على سعة صدرك، عزيزي القارئ.
من هجرة إلى هجرة.. وأنا أقول، من عطاء إلى عطاء، ونحن أحياء باقون.