الملفونيثو فريدة بولص
سوريا ـ حلب
farida.boulos@gmail.com
الملفونيثو فريدة بولص من مواليد حلب، حائزة على الإجازة في الآداب – الأدب الإنجليزيّ. درست اللاهوت في سوريا وسويسرا. عملت كمدرسة لأجيال عديدة في مدرسة بني تغلب الثانية، وفي ثانويّات حلب. لقد خدمت الكنيسة في مختلف المجالات، بما في ذلك الأحديّة ومركز التربية الدينيّة واللجنة الخيريّة والمجلس المليّ. وكانت أوّل وكيلة خدمت في كنيسة مار جرجس بحيّ السريان. لها محاضرات دينيّة واجتماعيّة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وقد أعدّت العديد من الكتب لدورات تفسير الكتاب المقدّس في العهدين القديم والجديد. وفي الآونة الأخيرة، قامت بتسجيل ونشر دروس فيديويّة على منصّة YouTube حول دراسة وشرح إنجيل يوحنّا. قامت أيضاً بترجمة كتاب “سير القدّيسات والملكات السريانيّات” من الإنجليزيّة إلى العربيّة، وهو كتاب من أصل سريانيّ. لقد خدمت في المطرانيّة لسنوات عديدة، وكانت أمينة السرّ للشؤون الخارجيّة خلال فترة المتروبوليت مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، وشاركت في العديد من المؤتمرات المحلّيّة والدوليّة كممثّلة للمرأة السريانيّة وأحياناً للكنيسة السريانيّة.
عدد صفحات المشاركة 20 صفحة (A4) .
كنيستي السريانية الرهاوية وشعبي الحبيب
المرأة الرهاوية
أنا لست مؤرّخة، ولم أدرس التاريخ، وإنّما أنا ابنة الرهاويّين الكرام. علّمتني الحياة الاجتهاد والعمل الدؤوب لتحقيق ما أطمح إليه، وعلّمتني كلمة اللّه أموراً لا يمكنني إحصاؤها، ومن أهمّها: أوّلاً، المثابرة في العمل وتحقيق مشيئة اللّه، وثانياً، البحث عن الحقيقة “تعال وانظر”. وكما عرفني الكثيرون، أودّ أن أعرفكم بنفسي. أنا لا أفتخر إلّا بصليب يسوع المسيح الّذي حرّرني من القيود البالية والّذي يقوّيني ويرشدني.
أودّ أن أكتب بعض المعلومات عن الهجرة والمجازر الّتي ارتكبت ضدّ أجدادي. جمعت هذه المعلومات من بعض الأشخاص الّذين قدموا من الرها، وكانت أعمارهم لا تتجاوز العشرين عاماً. وأيضاً في أثناء مرافقتي لبعض المستشرقين في حواراتهم مع الرهاويّين الأوائل. أودّ أن أستذكر شخصيّتين بخاصّة: الملفونو يوسف نامق، الّذي قدّم لنا الكثير من المعلومات الشفهيّة وكتابه “القافلة الأخيرة” على الرغم من أنّه كان في سنّ العاشرة عندما تمّ الرحيل.
الشخصيّة الثانية هي عمّي عبد اللطيف بولص العطّار والقصاص الشعبيّ لفترة طويلة. كان يعيش في حيّ السريان وهو من مواليد 1906. كان يحمل جرس الكنيسة والثريّا من الرها إلى حلب على ظهر دابّته في أثناء الهجرة، كان ذلك بصحبة أخيه سعيد، حاملين معهما أخاهما الصغير اليتيم، وهو والدي أرتين. قام الملفونو يوسف بحمل بعض الكتب التراثيّة والذكريات عن حرق الكتب الدينيّة والتاريخيّة، أمّا عبد اللطيف، فحمل معه الذكريات المؤلمة والصعبة من أحداث القتل الجماعيّ الّتي شاهدها بأمّ عينيه، وكان يحمل الجرحى من مواقع القتل والذبح إلى مدينة الرها. هؤلاء وغيرهم هم الّذين تركوا كلّ شيء إلّا إيمانهم ومحبّتهم لكنيستهم، وقصدوا حلب أو بلداناً أخرى، وحاولوا نسيان الأسباب الظاهرة والخفيّة وراء تركهم لديارهم وممتلكاتهم. أترك هذا الأمر أيضاً لغيري الّذين لديهم معرفة أكثر منّي.
أمّا أنا، فسأكتب عن المرأة الثكلى الحزينة والقويّة بإيمانها ورجائها في غد أفضل، بدءاً من وصولها إلى حلب، المدينة الّتي احتضنتها وأعطتها الثقة والعمل والجنسيّة. سأسرد قصّة رحلتها الشاقّة عبر السنين وكيف وصلت إلى ما هي عليه الآن. وقد قبلت أنا كتابة قصّة شعبي، واخترت أن أكون خادمة في كنيستي بسبب محبّتي للجميع وتمنّياتي بمستقبل واعد ووعي أفضل.
ذكريات الفترة من 1924 إلى 1949
توالت الأحزان والحروب، والمرأة الرهاويّة تكافح لتأمين لقمة العيش لنفسها ولمن تعيلهم. هناك الأرملة الّتي تعيش مع أولادها، والثانية الّتي زوجها مصاب بالحرب أو مصاب بمرض لا شفاء منه، والأخت الأخرى الّتي تعتني بإخوتها الصغار وأطفال أشقّائها الأيتام. الفقر يحصد أرواح الرضّع، والحرب تأخذ أرواح أولئك الّذين انضمّوا للجيش. الطعام قليل، والحليب غير متوفّر، وأجرة العامل لا تكفي لسدّ احتياجاته واحتياجات من يعول. ومع ذلك، تستمرّ المرأة في الصبر، وتحمل أعباء الحياة، تعمل نهاراً وليلاً في البيت وخارجها، وتبذل قصارى جهدها لتعيش هي وعائلتها حياة كريمة.
لم أشهد هذا الزمن بنفسي، ولكن سمعت الكثير من قصصه من أقربائي، ومن مؤلّفين مثل الملفونو يوسف نامق، وقرأت كتابه الشائق “القافلة الأخيرة”. ومن الأمور الّتي لفتت انتباهي: أوّلاً، عمل النساء المتزوّجات وغير المتزوّجات خارج المنزل. ثانياً، توجّه بعض الفتيات للذهاب إلى المدرسة. ثالثاً، انضمامهنّ إلى الحركة النسائيّة في حيّ السريان، الّتي كانت تعرف بحركة الشابّات، ومنها نشأت الحركة الكشفيّة النسائيّة كما ذكر في كتاب “القافلة الأخيرة”.
فرص الزواج كانت قليلة في الثلاثينيّات والأربعينيّات بسبب الفقر والحرب العالميّة الثانية. ومع ذلك، بدأت المتزوّجات وغير المتزوّجات بالعمل مباشرة بعد انتهاء الحرب، سواء في الخياطة داخل المنزل أو خارجه، أو العمل في الريجي، أي في صناعة السجائر وعلب السجائر، أو في معامل السكاكر، أو في صناعة الغزل. كن أيضاً عوناً وسنداً للرجال، حيث قال الربّ الإله: “ليس جيّداً أن يكون آدم وحده، فاصنع له معيناً نظيره”.
الأحداث في الفترة من 1950 إلى 1965
بعد جلاء الفرنسيّين من سوريا ولبنان، زادت الأنشطة الاجتماعيّة والتعليميّة والثقافيّة. بدأت حركة البناء في تأسيس المنازل والمدارس التابعة للكنائس. قامت بعض العائلات الرهاويّة المهتمّة بالتعليم بإرسال بناتها لاستكمال تعليمهنّ خارج حيّ السريان، إمّا في مدارس الدولة أو المدارس الخاصّة.
أحبّ أن أذكر هنا نيافة المطران مار طيموثاوس أفرام عبّودي، الّذي كان في الخمسينيّات راهباً. يذكره الكثيرون ممّن كانوا أكبر سنّاً منّي، بأنّه بدأ يشجّع الكثيرين على الخدمة في الكنيسة، وأسّس مدرسة الأحد بصفّ واحد، وقام بتشكيل الإيماس والإيتاس لعدّة أشهر. وما زال بعض الرجال والسيّدات يتذكّرون تلك الأيّام.
أذكر حينما قام قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني بزيارة كنيستنا في عيد القيامة عام 2023، تقدّمت إليه امرأة وقالت له: “هل تتذكّرني سيّدنا؟ أنا كنت واحدة من طالباتك في الإيتاس”، معتقدة أنّه المطران أفرام عبودي. وبتواضع كبير، قام قداسته بإيماءة برأسه وقال لها: “نعم، لكن هل تسمحين لي بمعرفة اسمك؟”
لا بدّ لي من التأكيد على أنّ مدرستنا قد قدّمت بعض المنح الدراسيّة لبعض الطالبات على نفقتها الخاصّة حتّى الصفّ التاسع، شريطة أن تكون الطالبة متفوّقة. ويجب علينا ألّا ننسى إسهام القسّ يوحنّا طورو في هذا الشأن، إذ ساهم في توفير منح دراسيّة كاملة أو جزئيّة للعديد من الطلّاب، سواء من الإناث أو الذكور، ليتمكّنوا من استكمال دراستهم في معهد حلب العلميّ (American College).
يحزنني ما سأذكره الآن من سيرة حياة عائلتي في ذلك الزمن. تزوّج والدي، الّذي كان يعمل لدى أحد أفراد كنيستنا في صناعة الأحذية من والدتي، والّتي كانت يتيمة الوالدين، في بداية الأربعينات في منزل أبيها. ثمّ مرض والدي، واحتاج إلى عمليّة جراحيّة، ولم يجد أحداً يسعفه، سواء كان الأخوة أو لجان الكنيسة أو الأصدقاء.
كان المنزل بجوار المدرسة التابعة للكنيسة الإنجيليّة، ولم يتردّد القسّ يوحنّا طورو في عرض خدماته لهذه العائلة المنكوبة، حيث قام بتدريس البنتين جولييت ومريم وتأمين الحليب للأطفال الصغار. وتوفّي والدي وهو لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، تاركاً والدتي أرملة بلا معيل، مع أربع بنات؛ الأكبر منهنّ في الثامنة والصغرى لم تتجاوز الثمانية أشهر. تحمّلت والدتي الصعوبات جميعهنّ، واضطرّت والدتي لاستدانة مبلغ لشراء ماكينة خياطة للعمل في المنزل وتأمين قوت يومها وتربية بناتها.
تركت أختي الكبرى، وعمرها لا يتجاوز التاسعة، الدراسة لتساعد الوالدة في الخياطة وتربية أختيها، ولذلك أعتبرها أمّي الثانية. أمّا أختي المتوسّطة مريم، فقد تركت الدراسة بعد الصفّ الخامس الابتدائيّ، على الرغم من أنّها كانت من الأوائل في صفّها. أمّا أختي الصغرى، فقد أكملت الابتدائيّة حتّى الصفّ السادس، ولكنّها لم ترغب في مواصلة تعليمها. وبالنسبة لي، كان لديّ الحظّ الأكبر، وكان اللّه يرافقني.
فأكملت الدراسة الإعداديّة والثانويّة بمنحة دراسيّة جزئيّة؛ بسبب والدتي الّتي لم ترض ترك الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة. لذلك، كان عليّ أن أعمل في المدرسة والبيت بعد الدوام لتوفير بقيّة أقساط المدرسة، بالإضافة إلى أقساط حافلة المدرسة. هذه إحدى القصص الّتي أعرفها عن الفتيات اللّواتي اخترن العمل والاجتهاد فوق حياة الطفولة أو المراهقة في تلك الأيّام العصيبة.
لم يكن الآباء جميعهم يتبنّون نفس الفكر النيّر. لا أنسى الموقف الّذي حدث بيني وبين قريب لي ووالد صديقتي في بداية الصفّ السادس. عندما لم أجد صديقتي في الصفّ، سارعت إلى بيتها بعد انتهاء الدوام الدراسيّ لأستفسر عن سبب غيابها.
وإذا بي أقف أمام والدها، فاقتربت منه وبكلّ براءة سألته عنها، فأجابني بحدّة أنّها ستبقى في البيت لمساعدة والدتها، ونصحني بأن أفعل مثلها. رجوته أن يعيد النظر في رأيه، لكنّه لم يفعل، بل قال لي عبارة لا أنساها: “لو كان عندك أباً أو أخاً كانوا ربّوك أحسن من هيّك، لا داعي للبنت أن تدرس، نهايتها غسل وطبخ”. عدت إلى المنزل مكسورة الخاطر، والدموع تنهمر من عينيّ على صديقتي، وكنت حزينة بسبب أفكاره المظلمة والجاهلة، وخاصّة عندما تمّ انتقاد تربيتي بسبب غياب والدي أو عدم وجود أخ لي. أشكر اللّه على تغيّر حال الرجال في المجتمع الرهاوي بشكل كبير منذ ذلك الوقت.
في بداية الستّينات، كانت الأمور غير مستقرّة، وحدث انقطاع طويل في العمليّة التعليميّة؛ بسبب الانقلابات الّتي شهدتها سوريا. نتيجة لذلك، قرّر العديد من الطلّاب وخاصّة الإناث ترك الدراسة والبدء في العمل، سواء كمعلّمات أو في مجال الخياطة في المنزل. الكثير من الفتيات يفضّلن العمل في مجال الخياطة في المنزل بدلاً من الذهاب إلى المصانع. بعضهنّ يخيّطن القمصان أو البيجامات، وبعضهنّ يخيّطن الملابس النسائيّة. وكانت الستّينيّات تعدّ فترة جميلة، حيث كانت الفتيات الرهاويّات يرغبن في تطوير أنفسهنّ، فذهبن لحضور دورات خياطة الّتي كانت تقام من قبل جمعيّة التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ في العزيزيّة. وقد شجّعهنّ مطراننا الكريم المثلّث الرحمات مار ديونيسيوس جرجس بهنام على ذلك. بدأت بعض الفتيات بالتدريس في مدرستنا السريانيّة، وفي مدارس أخرى، على الرغم من عدم حيازتهنّ الشهادات العليا، إلّا أنّ قلوبهنّ مليئة بالحبّ والعطاء. تعرّفت على بعضهنّ بعدما انضممت إلى المدرسة التابعة لكنيسة السريان الأرثوذكس، حيث كانت الكنيسة تفتح أبوابها بشكل واسع. قدّمن خدمتهنّ في المدرسة بنصف راتب المعلّم.
بينهنّ املين تورو الّتي كانت أوّل سيّدة تحصل على شهادة الثانويّة العامّة، والملفونيثو جورجيت بقّال، وكذلك الملفونيثو كاترين إسكندر والملفونيثو جوزفين وكيل، والملفونيثو راحيل وكيل. بدأت راحيل وكيل بشهادة ابتدائيّة فقط، ولكنّها انضمّت إلى العديد من الدورات التدريبيّة، حتّى أصبحت واحدة من أفضل معلّمات رياض الأطفال في حلب في الستّينات.
وهناك عدد من الفتيات اللّواتي قمنا بالتدريس في مدارس أخرى. من بينهنّ المعلّمة جوزفين إسرائيل طاشجي الّتي حصلت على شهادة البكالوريا الحرّة وشهادة من الصفّ الخاصّ، وأختها الآنسة فلّورة طاشجي. وهناك أيضاً بعض السيّدات اللّواتي فضّلن العمل في وظائف أخرى، مثل السيّدة جورجيت كللو الّتي أدّت دوراً فعّالاً في مساعدة العاملات في الريجي، وقد قدّمت يد المساعدة في خدمة الكنيسة في جميع نشاطاتها على مدى سنوات طويلة.
واعتذر للسيّدات اللّواتي لم يتمّ ذكر أسمائهنّ في النصّ السابق. قد تكون إسهاماتهنّ وجهودهنّ مهمّة، وتستحقّ الاعتراف بها. نحن نقدّر جميع النساء اللّواتي ساهمن في خدمة المجتمع والكنيسة بطرق مختلفة، ونثمن تفانيهنّ وإسهاماتهنّ القيّمة.
وفي هذا السياق، يجب أن أذكر حركة المرشدات، وتحديداً الفوج الأوّل، وحركة الرياضة الّتي شملت بعض الفتيات الّذين انضمّوا إلى نادي الشهباء في حيّ السريان في أواخر الستّينات. وكان معظمهنّ لاعبات في كرة السلّة أو الطائرة في مدارسهنّ. ونحن نفخر بهذا الإنجاز حتّى اليوم، حيث قام بعضهنّ وصديقاتهنّ المسلمات بدعم من إدارة نادي الشهباء بتشكيل فريق لكرة القدم في عام 1970، وخاضوا مباراة لا تنسى مع فريق الأشبال للذكور. ومع ذلك، لم يحظ الفريق بالتشجيع الكافي من الجمهور وأهاليهنّ، وللأسف، لم يستمرّ الفريق في العطاء.
فريق نادي الشهباء بحلب
لم تتوقّف الفتيات السريانيّات عن ممارسة الرياضة، بل انضممن إلى المعهد الرياضيّ لممارسة الرياضة والحصول على التعليم والتدريب في المدارس والنوادي. ومن بينهنّ أذكر ملفونيثو ثريّاً طاشجيّ الّتي كانت واحدة من أوائل خرّيجات المعهد، وتلتها نخبة كبيرة من اللاعبات مثل أمل قاطرجي وسلوى توكّمه جي وبنات فضول وجورجيت مقديس، وغيرهنّ. ولا يمكننا نسيان إلسي عبد اللطيف بولص الّتي تخرّجت عام 2022.
الأحداث في الفترة من 1965 إلى 1979
تعتبر أحداث هذه الفترة بداية عصر النهضة في الكنيسة وبين الشعب الرهاويّ. قد أطلق عليها هذا الاسم؛ نظراً لتفاعل الشباب بشكل كبير في الخدمة الكنسيّة. اهتمّت الشبيبة بالخدمة سواء الذكور أو الإناث من خلال إقامة دورات سريانيّة لتعلّم اللغة السريانيّة باستخدام أحدث الأساليب، حيث يتعلّم المعلّم الشابّ، ثمّ يعلم غيره. تمّ حفظ التراتيل السريانيّة وطقوس القدّاس ومدائح الصوم الكبير والأناشيد السريانيّة بشكل جيّد. هنا أودّ أن أذكر بعض الشخصيّات الّتي أثّرت فينا خلال تلك الفترة. كان لدينا المثلّث الرحمات الخوراسقف برصوم أيّوب ـ عراقيّ الجنسيّةـ والدكتور الأب الخوري جوزيف ترزي الرهاوي الّذي كان طالباً جامعيّاً ومعلّماً للّغة السريانيّة والإنجليزيّة. وكذلك الشمّاس الإنجيليّ جورج قمر والمرحوم ملفونو برهان إيليا وملفونو أبروهوم نورو، وغيرهم من الشخصيّات.
كانوا يرحّبون بالطلّاب دون أيّ شروط للانضمام، بغضّ النظر عن العمر أو المستوى التعليميّ، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً. العديد من الفتيات العاملات تعلّمن اللغة السريانيّة، وقُمن بتأليف القصص والقصائد بعد إكمال أربع دورات تعليميّة متتالية. كانت هذه نهضة كنسيّة رائعة.
وأذكر جيّداً كيف قمنا بالوقوف على الكود وترتيل المدائح خلال آحاد الصوم الأربعينيّ. ولا أنسى الرحلات الّتي نظّمت والمحاضرات الثقافيّة الّتي أقيمت في صالة الأوندالغ في قبو مدرسة السريان. كانت تلك الصالة تشهد العديد من أنشطة الشبيبة في تلك الفترة بين الستّينات والثمانينات. عاد ملفونو نوري إسكندر من مصر وهو حامل لشهادته الموسيقيّة ومليء بالحماسة، والتقى شباب وشابّات الدورات السريانيّة. كان هؤلاء الشباب يحبّون كنيستهم بشغف، ويرغبون في رقيّها، وبدأت بتشكيل أوّل جوقة للتراتيل المصحوبة بالموسيقى تضمّ الشباب والشابّات، سواء كانوا متعلّمين أم غير متعلّمين، شمامسة أو علمانيّين، طلّاباً في المراحل الإعداديّة والثانويّة والجامعيّة. تمّ ترشيحي للانضمام إلى الكورال من قبل بعض الأصدقاء، بسبب قدرتي على قراءة النوتات بشكل جيّد وحبّي للترتيل.
عندما كنت في بداية المرحلة الثانويّة، كنت عادة أعود من المدرسة في الساعة الخامسة. في أحد الأيّام، عدت من المدرسة في الساعة السادسة والنصف، وهو موعد جلسة الكورال. لذا ذهبت مباشرة باللباس المدرسيّ المعروف باسم لباس الفتوّة، ممّا أثار دهشة أعضاء الكورال. أتذكّر أنّ ملفونيثو إيفيت خوري، الّتي كانت من مسؤولي المرشدات معنا، قالت: “ألست أنت خياطة أيضاً كما أخواتك؟!”
وفي اليوم نفسه، كان شباب فرقة التينور لا يعرفون اللحن بشكل جيّد، فناداني ملفونو نوري وقال: “أنت طالبة! تعالي ورتّلي هذه النوتة مع الجميع”. أحياناً، كنت أشعر بالاستياء؛ لأنّه كان ينقلني من مجموعة لأخرى (سبرانو، الطو، تينور) بسبب قراءتي للنوطة أو بسبب صوتي القويّ والعالي. كم كانت تلك الأيّام جميلة، وروح الأخوّة الصادقة تجمّعنا. كان ملفونو نوري يجمع شباباً من كنائس حيّ السريان، بما في ذلك كنيسة السريان الإنجيليّة وكنيسة السريان الكاثوليك وأيضاً كنيسة السريان الأرثوذكس.
صورة للكورال
رتلنا في الكنيسة، وقمنا بأداء الأغاني والأوبريتات على المسرح، وكنّا نرقص. ومع ذلك، كان هناك في كثير من الأحيان تحدّيات كبيرة تواجهنا من قبل أولئك الّذين يحملون آراء محافظة تعرقل مسار هذا النشاط الموسيقيّ الرائع. ملفونو نوري يحبّ تراثنا الموسيقيّ الغنيّ، وهو شخصيّة سريانيّة رائعة تستحقّ الإشادة. قدّم الكثير لإحياء التراث السريانيّ، وشجّع الكثيرون على مواصلة العمل في هذه الخدمة رغم الصعوبات كلّها. وأودّ أن أذكر هنا أيضاً أوّل مدرسة فلسفة في معهد حلب العلميّ، وهي الملفونيثو جولييت تورو، والّتي كانت أوّل أستاذة تحمل درجة البكالوريوس في حيّ السريان. بفضل وجودها معنا في المدرسة، لم يعد يجرؤ أحد على إهانتنا بتعليقات مثل “يا بنات برّاكات السريان، انزلوا من الباص”. وبفضل مساهمتها، تحسّنت الأوضاع وزاد الاحترام والتقدير لثقافتنا وهويّتنا السريانيّة.
وفي عام 1967، اندلعت حرب 5 حزيران وانضممنا نحن، فتيات الصفّ الحادي عشر، إلى الجيش الشعبيّ، وخضعنا لتدريب عسكريّ لمدّة 45 يوماً، حيث تعلّمنا حمل السلاح، تلاها دورة تمريض. كانت تلك أيّاماً صعبة، إلّا أنّنا، فتيات السريان، كنّا عازمات على تحدّي الصعوبات واستكمال دراستنا. نعلم من إيماننا المسيحيّ أنّ الفرح والحزن مقترنان. في بداية العام الدراسيّ 1967 في معهد حلب العلميّ، تمّ الإعلان عن رحيل الأساتذة الأمريكيّين. كان هناك احتفال بشهادة High School، وكنت أنا ضمن المجموعة الأخيرة من الطلّاب الّذين سيحصلون على تلك الشهادة، ولكن تمّ إلغاؤها بعد ذلك بسبب رحيل الأمريكيّين من سوريا. وكان لي الشرف أن أكون الأولى من بين الفتيات الرهاويّات اللّاتي حملن تلك الشهادة القيّمة.
والخبر الثاني كان وقف المنح الدراسيّة للطلّاب والطالبات. نتيجة لذلك، قرّر معظم الطالبات الرهاويّات إمّا مغادرة المدرسة نهائيّاً أو الانتقال إلى المدارس الحكوميّة. أمّا بالنسبة لي، فبفضل نعمة الربّ، استمريت في المدرسة. أوّلاً، بفضل تشجيع وتضحية من قبل أهلي، وبالتالي بفضل المساعدة الّتي قدّمتها لجنة المدرسة المكوّنة من الأرمن الإنجيليّين، حيث تمّ منحّي نصف القسط كتكريم لتفوّقي في كلّ سنوات دراستي. في العام الدراسيّ 67-68، تقدّمت 14 فتاة رهاويّة لامتحان الشهادة الثانويّة في فروعها العلميّ والأدبيّ. لا أتذكّر السبب الّذي دفعنا للقاء معاً، ولكن توصّلنا إلى اتّفاق بأن نساعد بعضنا البعض لتحقيق النجاح بتفوّق. كنّا نتبادل الكتب الدراسيّة بسبب ارتفاع تكاليف الكتب بالنسبة لنا في حيّ السريان، وقد حدث بالفعل أن نجحنا جميعاً. والعديد منّا انتسب إلى الدراسات العليا، وتخرّجنا من الجامعات أو المعاهد.
تحدّثت عن ملفونيثو أملين تورو، وهي أوّل فتاة حاصلة على شهادة الثانويّة. كما ذكرت ملفونيثو جولييت تورو، والّتي كانت أوّل فتاة تحمل درجة البكالوريوس في قسم الفلسفة. وتمّ فتح باب التعليم العالي بمصراعيه للراغبات في الحصول على شهادات عالية في مجالات متنوّعة مثل الطبّ والصيدلة والهندسة والعلوم الذرّيّة وغيرها من الموادّ العلميّة، بالإضافة إلى الآداب واللغات والتاريخ والجغرافيا وغيرها. ونفتخر بالعديد من الشخصيّات اللّواتي حصلن على درجة الدكتوراه في مجالات مختلفة حتّى الآن: الدكتورة جاكلين طاشجي والدكتورة ريتا نجّار هما اختصاصهما في طبّ الأطفال. وهناك الصيدلانيّة ليزا سمعان مقدسيّ، ميسم سعيد طاغجي وجويل مقديس أنطون. بالإضافة إلى ذلك، هناك الدكتورة سهيلة بردقجي الّتي حصلت على درجة الدكتوراه في هندسة الطيران، وسوزان خربوطلي الّتي حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب الفرنسيّ، وريتا أطماجة الّتي حصلت على درجة الدكتوراه في الآثار، وماري جورج قمر الّتي حصلت على شهادة قريبة من الدكتوراه في الموسيقى. بالنسبة لي، حصلت على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزيّة، وكنت قريبة جدّاً من الحصول على درجة الدكتوراه في اللاهوت، ولكن بسبب بعض الظروف لم أتمكّن من تقديم أطروحتي الجاهزة للمناقشة. أعتذر من الأخوات اللّواتي لم يتمّ ذكر أسمائهنّ.
تحدّثت عن بعض المعلّمات الرهاويّات اللّواتي خدمن بنصف راتب المعلّم، ولكن لم يبق الحال كذلك بعد عام 1967، حيث حصلت الرهاويّة على حقوقها، وكان ذلك واضحاً عندما التحقت الملفونيثو جانيت طاشجي وفريدة بولص بمدرسة بني تغلب الثانية (مدرسة السريان).
بكلّ المحبّة والشكر كلّه لله، أؤكّد أنّ المرأة خلقت لتعلم بنجاح كبير. قد علمت وأبدعت العديد من المعلّمات، وخاصّة ملفونيثو كاترين إسكندر، جانيت طاشجي، ثريّاً طاشجي، ولوسين عمانوئيل، وملكة حناوي زوجة ملفونو البير قسّ برصوم، وغيرهنّ. لم تكن المعلّمة تخدم في المدرسة فقط، بل في الكنيسة أيضاً.
في بداية عام 1969، طلبت من مثلّث الرحمات، المطران مار ديو نيسيوس جرجس بهنام، أن يسمح لنا بإقامة مدرسة أحديّة في حيّ السريان. وبارك العمل وكان نعم الراعي. أرسل إلينا الأناجيل وبطاقات مكتوبة عليها آيات من الكتاب المقدّس. كلّ ذلك بعد أن هيّأت الهيئة التعليميّة المؤلّفة من الإكليريكيّ عبد المسيح وملفونيثو جانيت طاشجيّ، ونخبة من المرتّلات في الكورال الكنسيّ.
في بداية سنة 1970، طلب منّي نيافة المطران الانضمام إلى دورة التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ مع الأخت الملفونيثو ليلى بهنام للبدء في العمل في مدرسة الأحديّة بالكاتدرائيّة. انضممنا للدورة، واختتمت بمخيّم في صلنفة – مخيّم تدريبيّ للعمل في الأحديّات. استمرّت مدرسة الأحد ورحلاتها اليوميّة بقيادة الملفونيثو فريدة حتّى عام 1979 عندما غادرت سوريا للتدريس في الكويت. كثيرات انضممن وغادرن التعليم في المدرسة الأحديّة؛ بسبب الزواج أو السفر. وأودّ أن أشير هنا إلى أنّ رحلات الأحديّة كانت تتمّ بصحبة ودعم مادّيّ ومعنويّ مستمرّ من شباب الكنيسة مثل أدور سعادة وبيير حجّار وغيرهم.
أذكر في أحد الأعياد، وهو عيد القيامة، احتجنا إلى الدعم المادّيّ لإقامة معرض للأطفال، حيث كانت ميزانيّتنا السنويّة تتراوح بين 100-500 ليرة سورية. قمت بجلب بعض الحلويّات، ونزلت إلى قبو المدرسة حيث تجتمع اللجنة الخيريّة في صالة الأوندالغ، أي العشور، وقمت بتوزيع الحلويّات، وطلب الدعم منهم. وأذكر تلك اللحظة الّتي خرجت من عندهم وأنا فرحة وممتنّة للّه، حيث تمّ جمع مبلغ 1000 ليرة سورية، أي أكثر ممّا نحتاجه. هذه هي المحبّة الّتي نأملها من المؤمنين – التشجيع المعنويّ أوّلاً ثمّ الدعم المادّيّ.
ولن أنسى أبداً دعم طلّاب الجامعة (من الأسرة الجامعيّة) الّذين ساعدوا على الأحديّة في الرسم وإقامة الحفلات والمعارض، وأحياناً المشاركة في الأنشطة. أتذكّر بعضاً منهم: إبراهيم جولجي، يلدا نامق، وعطا اللّه أفلاطون، وغيرهم. يؤسفني أنّنا لم نصوّرهم وهم يعملون كما يفعل الشباب اليوم. ونحن نشكر الربّ أنّ الأحديّة ما زالت مستمرّة حتّى اليوم، حيث تمّ تغيير اسمها لتصبح “أخويّة الطفل يسوع” في مركز التربية الدينيّة.
ونفتخر بأنّ غالبيّة الإدارات المتعاقبة في المركز تتألّف من إناث معطاءات ومتفانيات في عملهنّ. أتذكّر بعضهنّ مثل بهيجة ياندم، سلوى توكّمه جي، ملكة حناوي وأخواتها سلوى وهند وآريا، ومنيرة جالق، ليناً شاهان، ومن الأعضاء الجدد رانيا ناشف، ليزا باندك، جويل مقديس أنطون وأخواتها، تيودورا عمانوئيل وغيرهم.
المبادرات الحسنة والمفيدة في الكنيسة
في بداية عام 1970، دعا الملفونو أبروهوم نورو بعض الطلّاب الجامعيّين للاجتماع في مدرسة السريان (بني تغلب الثانية) واقترح تشكيل نواة للأسرة الجامعيّة. بعد اجتماعين أو ثلاثة، علمت بالموضوع وانضممت إليهم. كنّا سعداء جدّاً في هذه اللقاءات غير الرسميّة، ثمّ طلبنا من المجلس المليّ أن يخصّص لنا مقرّاً وإدارة رسميّة بدلاً من الإدارة المؤقّتة. ووافق المجلس على طلبنا، ومنحنا مقرّاً في قبو المدرسة، وعيّن الملفونو الأستاذ عبد النور كلور مشرفاً علينا، وكان أحد أفضل المشرفين. تلاه الملفونو يوسف أدول كمشرف. ومنذ ذلك الحين وحتّى يومنا الحاضر، لم نر مشرفين آخرين.
لكن من هو المشرف؟
الإشراف من قبل شخص ذي خبرة ومحبوب من الناس أمر مهمّ، وهذا الشخص ليس الرئيس أو المسؤول. الإدارة تتألّف بأكملها من أعضاء، والمشرّف يبقى معهم للاستشارة في الأمور الصعبة.
على الرغم من أنّ غالبيّة الطلّاب كانوا من الذكور، إلّا أنّ الإناث كانوا نشيطات وفعالات جدّاً، مثل الدكتورة جاكلين طاشجي وأخواتها، وخاصّة جورجيت طاشجي مدرسة اللغة الإنجليزيّة الّتي خدمت الكنيسة لفترة طويلة، انتقلت من الجامعيّين إلى المرأة وثمّ إلى لجان الأخويّات في مركز التربية الدينيّة. وكذلك الملفونيثو لوسين عمانوئيل والمهندسة جميلة طورو وملفونيثو ثريّا طاشجي (لها إسهامات طويلة في الخدمة: المرشدات، الأخويّات، مركز التربية الدينيّة) وسميرة بردقجي وغيرهنّ الكثير. وكان لي بعض الأدوار، حيث اشتركت في الإدارات جميعها باستثناء الإدارة المؤقّتة، وكنت المسؤولة الأولى في أربع دورات متتالية حتّى شهر أيلول من عام 1979.
كانت الأسرة الجامعيّة تخدم الكنيسة في كثير من المجالات، مثل إقامة الحفلات وخاصّة حفلة البالو، بالإضافة إلى خدمات أخرى. يجدر ذكر أنّه عند بناء المبنى الرئيسيّ للمطرانيّة في حيّ السريان، أقامت الكنيسة حفلة بالو بهدف جمع التبرّعات. وطلب المجلس المليّ من الجامعيّين المشاركة في تلك الحفلة. وفي يوم الحفلة، فوجئ المجلس بقالب كاتو صنعته بسيمة ياندم، خرّيجة معهد التدبير المنزليّ والفنون، وكان القالب عبارة عن شكل مصغّر لمبنى المطرانيّة (وكان المهندسان المسؤولان مع الجامعيّين الأستاذين عبد النور كلور وسعيد طاغجي). ويجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ المزاد كان على القالب، وتمّ جمع مبلغ كبير في تلك الحفلة.
عندما نبني جسور المحبّة بين العاملين جميعهم في الكنيسة، تزدهر الكنيسة ويتمكّن الجميع من خدمة بعضهم البعض. كنّا نعمل كمجتمع مترابط مثل خليّة النحل. وكان معظم طلّاب الهندسة فنّانين رسّامين ونحاتين، وطلّاب الآداب كتاباً وشعراء وممثّلو مسرح. أمّا طلّاب الاقتصاد والرياضيّات والفيزياء والطبّ، فكانوا محاضرين يدعموننا بمحاضراتهم، ويقدّمون كلّ ما هو جديد ومفيد.
في السبعينيّات، كانت هناك العديد من اللجان مثل لجنة الوقف واللجنة الخيريّة لمساعدة الفقراء ولجنة مواساة المرضى، ولجنة الجامعيّين والأحديّة والمدرسة. إذا احتاج أحد إلى أيّ خدمة، كان يتمّ طلب المساعدة من أعضاء اللجنة الجامعيّة. لذلك، كان بعضنا أعضاء في جميع هذه اللجان، ويخدمون في كلّ مكان. أتذكّر بعض أسماء السيّدات مثل لوسين عمانوئيل وملكة حناوي والدكتورة جاكلين طاشجي والملفونيثو فريدة بولص. كنّا نعمل في المدرسة والأحديّة والخيريّة ولجان تنظيم للحفلات وأيضاً لجنة الجامعيّين.
لم تتوقّف الأسرة الجامعيّة أو لجنة الجامعيّين، ففي عام 1983 تحوّل الاسم من لجنة إلى أخويّة الجامعيّين وهي مستمرّة حتّى اليوم. وهنا أذكر أنّنا في أواخر الثمانينات شكّلنا فرعاً للأخويّة الجامعيّة باسم أخويّة الخرّيجين بقيادة ملفونو ألبير قس برصوم ونائبته ملفونيثو فريدة بولص. وبالفترة نفسها فتحنا النادي باسم مطرانيّة السريان الأرثوذكس، واستقبل الرجال ليلعبوا لعبة الطاولة. ولتلافي الأخطاء، كنّا نتناوب في حضور هذه اللقاءات. كم كنت فخورة آنذاك، كنت أجلس بينهم وباحترام شديد كانوا يلعبون دون أن يتفوّهوا بكلمات بذيئة، قائلين: “اصمتوا ملفونيثو حاضرة بيننا”. هذا الاحترام من قبلهم شجّعني لأبدأ الأحاديث الودّيّة معهم بكلّ راحة ومحبّة، وتوطّدت العلاقات بين الخرّيجين، وهؤلاء الرجال الجديرين بالاحترام.
هل على المرأة السريانيّة أن تقبل دائماً المرتبة الثانية بعد الرجل؟
الجواب طبعًا لا. “غَيْرَ أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنْ دُونِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ الْمَرْأَةُ مِنْ دُونِ الرَّجُلِ فِي الرَّبِّ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ مِنَ الرَّجُلِ، هكَذَا الرَّجُلُ أَيْضًا هُوَ بِالْمَرْأَةِ. وَلكِنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنَ اللهِ.” (1 كورنثوس 11: 11 – 12)
حركة الشابّات في الأربعينيّات لم تستمرّ لفترة طويلة، ولكنّ المرأة لم تتوقّف. شاركت في الحركة الكشفيّة كما ذكر سابقاً، ثمّ تأسّس الفوج الأوّل للمرشدات، حيث تحوّلت هذه الشابّات إلى قائدات، وانضمّ بعضهنّ للعمل في الجمعيّات الخيريّة. تأسّست جمعيّة مواساة المرضى من قبل الرجال في عام 1950، وانضمّت بعض السيّدات لجمع التبرّعات. وانضمّ بعض السيّدات كمؤازرات للجمعيّة الخيريّة، وفي السبعينيّات طلبت الجمعيّة المؤازرة من بعض السيّدات مثل م. املين طورو وأيضاً م. جورجيت بقّال وبعض السيّدات العاملات مثل أنجيل بقّال وسلمى قولتقجي ونعيمة أروش ونعيمة جاي أوغلي.
وبعد عدّة سنوات، وأنا كنت معلّمة وطالبة جامعيّة، طلبت منّي المساعدة في الحسابات فاستجبت للدعوة. في النصف الثاني من السبعينيّات، تشكّل الفرع النسائيّ للجمعيّة، وبدأت اللقاءات الشهريّة الدوريّة لهذا الفرع. عندما انضمّ بعض الشباب لهذه الجمعيّات الخيريّة، زادت الجمعيّة حيويّة بفضل روح الشباب وخبرة الكبار والمخضرمين. كانت تلك اللقاءات والحفلات الّتي كانت تقام في ذلك الحين رائعة، حيث تجتمع جميع الأعمار، ويشارك الجميع من الشباب والكبار، وكانوا يمثّلون صورة تعكس جماليّة الكنيسة.
هنا أذكر أنّ المطران الجديد، نيافة المتروبوليت مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، أعرب عن رغبته في أن يكون له غرفة في المبنى الجديد للمطرانيّة في حيّ السريان. ومن ثمّ، قامت اللجنة الخيريّة بتجهيز غرفة جيّدة ومجهّزة بجميع الوسائل والمرافق اللازمة ليقيم فيها عند الحاجة. ومع ذلك، لم تستخدم الغرفة إطلاقاً. وحدثت الحالة نفسها عندما حضر نيافة المطران مار بطرس قسّيس (المعتمد البطريركيّ آنذاك)، وتمّ تجهيز الطابق الأرضيّ، أي الصالة، في مبنى دار الطالبات لإقامته. وهذا كان السبب وراء معارضتي لتغيير أيّ شيء في مبنى الدار. تمّ إعداد كلّ شيء، ولكنّ الصالة لم تستخدم سواء للاجتماعات أو الإقامة. أتمنّى للجميع الخير، وأحبّ الجميع بمحبّة.
نعود إلى اللجنة الخيريّة والفرع النسائيّ الّذي تعلّقت به، وأحببت العمل فيه. إنّها تخدم كلّ المحتاجين والمرضى، وما زلت أستمرّ في الخدمة دون التدخّل في الأمور الإداريّة. كنت وما زلت أسعى لأقتدي بالسامريّ الصالح.
غادرت حلب في نهاية صيف عام 1979 للتدريس في الكويت، وعدت بعد 4 سنوات، وعملت كمرشدة روحيّة ومحاضرة اجتماعيّة دينيّة فيها. تسلّمت إدارة اللجنة الخيريّة في عام 1994، واستمريت بها حتّى نهاية عام 1995، ولكنّني لم أكن راضية تماماً عن خدمتي، لذا قرّرت الانسحاب، ولكن ما زلت أثابر على حضور الاجتماعات فقط.
تعاقبت الإدارات على رأس اللجنة الخيريّة، وفي الوقت الحاليّ، تعدّ اللجنة الخيريّة مصدراً للإغاثة والدعم للمجتمع السريانيّ ككلّ في هذه الأزمة الّتي بدأت في حلب عام 2012. أتمنّى النجاح والتوفيق للجميع، وأشكر وأقدّر كلّ من خدم ويخدم، ويقدّم مهامّه بإخلاص وتفان على مرّ السنين الطويلة.
الأحداث في الفترة من 1980 إلى 1990
في صيف عام 1980، توفّي مثلّث الرحمات مار إغناطيوس يعقوب الثالث، وحضرت الجنازة جموع الشعب السوريّ واللبنانيّ من المحافظات جميعها، وكما هو معتاد، كان عدد السيّدات أكبر بكثير من عدد الرجال. حضروا ليقدّموا النظرة الأخيرة على جثمان قداسة البطريرك الّذي كان محبوباً من قبل الشعب؛ بسبب شخصيّته القويّة وصوته الرخيم. وقد تمّ انتخاب قداسة مار اغناطيوس زكا عيواص الأوّل كبطريرك جديد. وخلال عام واحد تمّ تشكيل مركز التربية الدينيّة في الأبرشيّات بناء على قرار صادر من المجمّع المقدّس.
في صيف عامي 1981 و1982، طلب نيافة المطران يوحنّا إبراهيم منّي تشكيل نواة مركز التربية الدينيّة من بنات الكورال. بمساعدة بعض طلّاب الجامعة، بدأنا في تعليمهم قراءة الكتّاب المقدّس وتنظيم حلقات لتنمية قيم المسيحيّة فيهم. في صيف عام 1983، عدت بشكل نهائيّ من الكويت، واكتشفت أنّ إدارة مركز التربية قد تشكّلت، وتمّ استدعائي للانضمام إلى الإدارة. في البداية، كانت التحدّيات كبيرة، حيث كان الجميع يفتقرون إلى الخبرة في مجال التربية الدينيّة. وتمّ إرسال بعضهم لحضور دورات ومؤتمرات لاكتساب المزيد من الخبرة. وكما هو الحال في كثير من الأحيان، يتمّ تجاهل الأشخاص ذوي الخبرة، أو يكون لديهم رغبة فقط في الحصول على المناصب العليا. أذكر أنّني كنت مسؤولة عن اثنتين من الأخويّات في الأشهر الأولى. وكان أعضاء الإدارة هم المسؤولون عن الأخويّات، وكنت عضواً في الإدارات جميعها حتّى عام 1991.
لم أترأّس المركز، ولكن كنت نائبة الرئيس. في مرّة كنت نائبة رئيس الأستاذ جوزيف برداقجي، وعندما ترك منصبه، استكملت العمل في المركز. وفي المرّة الثانية، كنت نائبة للرئيس نيافة المطران يوحنّا إبراهيم، وكان الكهنة رؤساء الفرق الموجودة. هنا أشير إلى أنّ الكشّافة كانوا حينئذٍ يتّبعون لمركز التربية الدينيّة. لذلك توطّدت علاقتي مع الكشّافة، وأحببتهم وتمنّيت لو أنّني انضممت للكشّافة وأنا صغيرة. لن أتوسّع في أمور المركز، فهناك من سيكتب عن المركز بالتفصيل.
في نهاية عام 1983، طلب نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم من اللجان الموجودة في حيّ السريان اقتراح اسمين ليتمّ تعيينهما في المجلس المليّ، ولم يكن هناك أيّ مانع لاقتراح اسم سيّدة. بالنسبة لمركز التربية الدينيّة، تمّ اقتراح اسمي “ملفونيثو جورجيت كللو” و”ملفونيثو فريدة بولص”، ووافق نائب رئيس المجلس (الأستاذ عبد النور كلور) على هذين الاسمين. وبذلك، كنّا أوّل سيّدتين يتمّ تعيينهما في المجلس المليّ الرهاويّ، ليس في حيّ السريان فقط، بل أوّل سيّدتين في العالم السريانيّ.
جاءتنا دعوة إلى حضور مؤتمر دينيّ للشبيبة، وكانت فرصة رائعة للتعرّف على معتقدات كنائس أخرى واكتساب الخبرات من غيرنا. في هذا اللقاء، اضطررت إلى تولّي المسؤوليّة بالنسبة لكنيستنا السريانيّة في حلب، لأنّني وجدت أنّ معظم الأشخاص الّذين كنت معهم لا يعرفون معنى قبول الآخر والتمسّك بعقيدة كنيستنا. أشكر الربّ لأنّه كان معنا، وأرشدنا لتفادي كثير من المشاكل.
ولا يزال الوفد السريانيّ حتّى الآن متفهّماً ومحبّاً، ونحن أصدقاء حتّى اليوم، حيث يحترمونني وأنا أحبّهم كثيراً.
لم تكن المرأة السريانيّة الرهاويّة تخدم فقط في حلب، بل خرجت لتمثّل كنيستها خارج حلب وخارج سوريا. في أحد الأيّام، طلب منّي أن أترأّس الوفد السريانيّ الرهاويّ إلى الأردنّ لحضور مؤتمر مسؤولي مدارس الأحد في مجلس كنائس الشرق الأوسط. وقد سبقتني بعض السيّدات في حضور المؤتمرات في لبنان وقبرص، مثل السيّدتين الفاضلتين سيتا غزال وبهيّة قسّ برصوم. كان الوفد السوريّ يتضمّن شباباً من دمشق وحلب من الكنيسة السريانيّة.
وفي الطريق، انضمّ إلينا وفد الكنيسة الإنجيليّة من حلب. كان الوفد الأردنيّ واللبنانيّ قويّاً وجريئاً، متحدّثاً وملمّاً بالكتاب المقدّس. عندما حان دورنا، خشي الوفد السوريّ أن نكون ضعفاء أمام الوفود الأخرى. فشجّعتهم وأعطيت إحداهنّ الإنجيل لتقرأ بصوت مرتفع، ثمّ وقفت وبدأت بالحديث بعد صلاة قصيرة. ومن سوء الحظّ أو مشيئة اللّه، كانت المترجمة غير موجودة، لذا تحدّثت باللغة الإنجليزيّة أيضاً بنعمة اللّه. كانت أخواتي وإخوتي من الكنيسة فخورين بما تحدّثت به. وأذكر بعض الأشخاص الّذين كانوا معنا: المطران جان قوّاق، مطران أمريكا الشرقيّة حاليّاً (كان أكليريكيا)، والأب نبيل قبلو الّذي كان شمّاساً، وبعض معلّمات المدارس الأحديّة من حلب ودمشق. ومنذ ذلك الوقت، أصبحنا أصدقاء (في النصف الأوّل من ثمانينات القرن الماضي).
أقول إنّ الثمانينات كانت مليئة بالأنشطة المحلّيّة والإقليميّة. أتذكّر أنّني حضرت مؤتمراً إقليميّاً في قبرص مع أساتذة ومؤلّفي كتب الديانة المسيحيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط من سوريا ولبنان والأردنّ ومصر وفلسطين.
مشاركتي في مؤتمر إقليمي في قبرص مع أساتذة ومؤلّفي كتب الديانة المسيحيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط من سوريا ولبنان والأردنّ ومصر وفلسطين.
إخوتي وأبنائي والأحبّة كلّهم: كلّما كان الموفد مثقّفاً، ويعرف الكثير عن الكتاب المقدّس وعقيدة كنيسته ومشاركاً في النقاش، كلّما كانت الفائدة أكبر، لينقل ما تعلّمه لأفراد كنيسته.
مجلس الكنائس المسكونيّة (العالميّة – World Council of Churches) يهتمّ بتعزيز التضامن ومشاركة المرأة في الكنيسة. ومن هنا دعا المجلس الفترة ما بين 1988 إلى 1998 بعقد المرأة العالميّ. ولقد كان لي الشرف أنّ أمثّل الكنيسة السريانيّة السوريّة في العديد من اللقاءات لعقد المرأة العالميّ (Women decade) سواء داخل سوريا أو خارجها. حضرت المؤتمر الأوّل في اليونان، وأتذكّر حادثة: وقفت البروفسورة القسّ بياتي الألمانيّة، وتحدّثت عن تطوّر دور المرأة في الكنيسة اللوثريّة وكيفيّة اهتمامها بدراسة المرأة في الكتاب المقدّس، وكيف أنّها وصلت لتأدية القسوسيّة منذ عام 1960، وأنّ المسيحيّة تمتدّ من الشمال إلى الجنوب.
عند انتهاء محاضرتها، ومنحت فرصة للمناقشة، طلبت التحدّث وقلت: أعتقد أنّ التعبير “امتدّت المسيحيّة من الشمال إلى الجنوب” هو تعبير مبالغ فيه، حيث بدأت المسيحيّة في الشرق الأوسط، وتوسّعت بشكل دائريّ شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وفي القرن العشرين، انتشرت إلى أعماق أفريقيا عن طريق البعثات الغربيّة. وبالنسبة للموضوع الأساسيّ، رفعت كتاب “قصائد لمار أفرام” باللغة الإنجليزيّة، وقلت إنّ مار أفرام السريانيّ من القرن الرابع كتب قصائد رائعة عن جميع النساء المذكورات في العهد القديم.
في نهاية تلك الحلقة، اقتربت البروفيسورة منّي، وشكرتني واطّلعت على الكتاب. ثمّ استكملت ما بدأت به في السابق بأنّ الكتاب تمّت ترجمته أوّلاً إلى الألمانيّة في القرن التاسع عشر، ثمّ ترجم إلى الإنجليزيّة في القرن العشرين. وبعد ذلك، أصبحنا صديقتين حميمتين والتقينا في سويسرا مرّتين، وأحضرت مجموعة كبيرة منهم إلى حلب للتعرّف على كنيستنا وشعبنا.
تعلّمت الكثير في هذا المؤتمر، فقد تعلّمت حفظ أنشودة مريم العذراء “تعظّم نفسي الربّ”، وهذه الأنشودة هي الّتي نبدأ بها القدّاس الإلهيّ بصلوات “إمو ديلدتوخ”، في حين ترتّل الكنائس الأخرى أنشودة التعظيم. أيضاً، تعلّمت حفظ القدّاس الإلهيّ غيّباً. وتوطّدت العلاقة بيني وبين الأرثوذكسيّات الأمريكيّات اللّواتي يدرّسن اللاهوت، وتعلّمت أنّ الإيمان البسيط وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالعلم والمعرفة.
كما تعرّفت أيضاً على كاتبة وباحثة أوروبّيّة أصبحت أرثوذكسيّة لحبّها للعقيدة الإيمانيّة المستقيمة، وحصلت على كتبها عندما قابلتها في سويسرا، وتتحدّث تلك الكتب عن آراء نيّرة حول دور المرأة في الكنيسة والكهنوت. زرت أيضاً أديرة يونانيّة لأتعرّف على مهامّهنّ في القدّاس والصلوات العاديّة، وهذا أثار فضولي لمعرفة المزيد عن أديرة الراهبات في أوروبا ودورهنّ في الخدمة ودور المرأة الأرثوذكسيّة في الكنيسة.
عندما عدت، سألت الإكليروس لأتعلّم الأمور كلّها عن كنيستي السريانيّة بخصوص المرأة، وقرأت الكثير عن كنيستنا وأشعار مارّ أفرام ومار يعقوب السروجي، ودرست حياة المكرّسات والراهبات والشماسات اللّواتي يخدمن المطارنة في تحضير القدّاس ومعموديّة البالغات في القرون الأولى حتّى القرن التاسع والعاشر. (فيما بعد قمت بترجمة كتاب “قدّيسات وملكات الكنيسة السريانيّة” من الإنكليزيّة إلى العربيّة، وهو أصلاً مترجم من كتاب سريانيّ موجود في دير مار كبرييل).
قمت بعدّة أبحاث عن شماسة المرأة الّتي تختلف عن شماسة الرجل، وبحثت عن دور المرأة في كنيستنا بالعربيّة والإنكليزيّة، وبحثت أيضاً عن عدالة اللّه في تقييم المرأة والرجل، وأجريت بحوثاً أخرى، وكان آخر بحث لي عن فكر مارّ أفرام الحضاريّ حول رحمته تجاه المرأة، بما في ذلك “الزانية”، “المغتصبة”، و”النازفة”.
للأسف، هذه الأبحاث أُرشفت ولم تر النور. آمل أن تبدأ المرأة السريانيّة بالبحث والتنقيب عن الحقائق، وتحيا كما أراد لها اللّه، وليس كما يريدها الإنسان.
قرأت الكثير، وساعدني نيافة الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم في إيجاد الكتب الهامّة، سواء باللغة العربيّة أو الإنكليزيّة. كما أعطاني كتاب القدّاس الإلهيّ بالسريانيّة والعربيّة والإنكليزيّة. وفيما بعد، أهداني نيافة المطران مار ثاوفيلس جورج صليباً عدّة كتب، بالإضافة إلى الكتّاب القيّم “خبز الحياة” كتاب القدّاس الإلهيّ عام 2002. طلبت من نيافة المطران أفرام كريم (حاليّاً قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني) بعضاً من كتبنا باللغتين السريانيّة والإنكليزيّة، فمنحني كتابين قيّمين “معدعدوني” كتّاب الأعياد والمناسبات الكنسيّة، والكتاب الآخر الّذي يضمّ طقس المعموديّة والإكليل والدفن، وكتاب صلوات الكاهن باللغتين السريانيّة والإنكليزيّة.
لماذا أذكر هذه الأمور؟
إنّ كنيستنا السريانيّة لم، ولن تبخل على أيّ إنسان في تقديم العلم والمعرفة، سواء كان ذكراً أو أنثى، إذا أحبّ البحث والتمحيص. أذكر زيارتي الأولى إلى ديري الزعفران ودير مارّ كبرييل، حيث وجدت كلّ الترحيب والسخاء منهم والإجابة على أسئلتي الكثيرة. وسنحت لي الفرصة لزيارة المكتبة البريطانيّة عندما دعيت إلى جامعة لندن للدراسات السريانيّة لأقدّم مقالاً بعنوان “المرأة السريانيّة ودورها في أشعار مارّ أفرام”. وقد طلبت شراء صور لبعض أيقوناتنا السريانيّة، وحصلت على أيقونة لقيامة المسيح وأيقونة للمريمات عند قبر يسوع، وحصلت على إذن نشرهما.
أناشد محبّي المعرفة أن يتشجّعوا ويسألوا ويتقدّموا لنيل كلّ ما يطلبونه، سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً. فأبواب كنيستنا مفتوحة لمن يحبّ اللّه، ويرغب في خدمة الربّ، وليس فقط لمن يسعون وراء المناصب.
جميل أن يكون الإنسان منفتحاً على العالم، ويقبل الآخر كما هو، حيث يتعلّم ويعلم بدلاً من الانخراط في نقاشات سطحيّة وهدامة. تبادل الأفكار يساهم في زيادة معرفة الإنسان وتنمية قدراته، وتقوية ذاكرته وإيمانه باللّه.
كنت في سويسرا في المعهد المسكونيّ “بوسي” (Bossey) مع مجموعة رائعة من دارسي اللاهوت من جميع أنحاء العالم. وطلب من مجموعة السريان الأرثوذكس (كاهن هنديّ غير تابع لبطريركيّتنا وفريدة)، أن نقدّس في عيد الغطاس الشرقيّ. جلسنا معاً للتفكير والتحضير. أذكر في ذلك اليوم كم كان هذا الكاهن متواضعاً ومحبّاً لله. قال: “كيف لي أن أقدّس، وليس لديّ كتاب القدّاس؟ ” فابتسمت وقلت:” معي كتاب القدّاس باللغتين السريانيّة والإنجليزيّة، سأعيّره لك وأنا سآخذ دور الشمّاس والكورال”. قبل عرضي وقدّسنا بعد يومين (هنديّ – عربيّ – إنجليزيّ).
كنيستنا السريانيّة لها دور كبير في مجلس كنائس شرق الأوسط، حيث يكون قداسة البطريرك أحد رؤسائه. وكانت كنيستنا السريانيّة السبّاقة في حضور اللقاءات والمؤتمرات الّتي يعقّدها مجلس الكنائس العالميّة (WCC) ومجلس كنائس الشرق الأوسط (MECC).
لقاءات المرأة السريانيّة كانت عديدة في سوريا في منطقة الحميرة مار جرجس وفي صيدنايا. شاركت المرأة الرهاويّة الحلبيّة في اللقاءات جميعها. أذكر بعضهنّ من حيّ السريان، مثل السيّدة ماري توما، ملكة حناوي، كارولين بويجي، سميرة ياندم، سارّة دوغرامجي، وغيرهنّ.
وفي دمشق، تمّ استضافة المرأة العالميّة الأرثوذكسيّة من قبل البطريركيّة السريانيّة عام 1996. كنّا 6 سيّدات من كنيسة السريان في حلب، حيث ألقت ملفونيثو سارّة دوغرامجي الكلمة كزوجة كاهن، حيث كان التركيز الأساسيّ على دور زوجة الكاهن في الكنيسة. وتوالت اللقاءات في تركيّا وسويسرا، وأخيراً في إفريقيا، حيث تمّ عقد المؤتمر للاحتفال بانتهاء عقد التضامن مع المرأة في الكنيسة. وكنت الممثّلة عن كنائس حلب. كان لي شرف وامتنان للّه أن أكون إحدى المتحدّثات في معظم هذه المؤتمرات واللقاءات.
في الثمانينات والتسعينات، وحتّى اليوم، كانت المرأة الرهاويّة تترأّس تقريباً جميع اللجان الخيريّة للسيّدات، مثل ملفونيثو كوليت تورو، الّتي لها تاريخ طويل في الخدمة سواء في الأعمال الخيريّة، أو في الكشّافة. وهناك العديد من النساء اللّواتي خدمن في لجان الخيريّة وأخويّات مركز التربية الدينيّة والخدمة الاجتماعيّة ولجنة الموسيقى (الكورال)، مثل جورجيت كللو وجورجيت طاشجي وصونيا مقديس وماري توما، هيلدا تورو ومارلين ترزي تورو وثريّا يعقوب طاشجي، لوسين عمانوئيل، كارولين بويجي وفهيمة تورو، الّتي كانت تعزف على البيانو، وسيرمولا تورو الّتي قادت الكورال لعدّة سنوات. وكان الشعب الرهاويّ في ذروة التقدّم والثقافة والعلم.
المرأة السريانيّة – سابقاً وحاليّاً – تعمل يداً بيد مع إخوتها الرجال في الكنيسة وخارجها، وأغلبهنّ إمّا معلّمات أو موظّفات ومتزوّجات. كثيرات منهنّ حاصلات على شهادات عليا، ويعملن كأطبّاء (أطفال داخليّة، قلبيّة، أسنان، إلخ) ومهندسات ومدرّسات في معاهد وجامعات (مثل سهيلة بردقجي وسيلفا مقديس ودّ. جاكلين طاشجي ودّ. ليّناً شفيق غزال) وموظّفات في الجامعة. وهناك أيضاً خياطات نسائيّة (مثل جاكلين عمانوئيل وجوليت يوسف قمر وعفّاف سيوفي وسعاد ياندم)، وفنّانات مثل لوسي مقصود وبسيمة ياندم ونورا جان غزال (عام 2000).
في النصف الثاني من الثمانينات شكّلت لجنة الاوندالغ (صالة تيودورة) ضمن المجلس الملليّ، وترأّسها ملفونو سليم قولتقجي، بالإضافة إلى العضوين ملفونو البير قسّ برصوم وملفونيثو فريدة بولص. وكانت هذه المبادرة تهدف إلى تشجيع المرأة على حضور هذه اللقاءات بعد القدّاس الإلهيّ. وكانت اللجنة مسؤولة عن تنظيم اللقاءات في هذه الصالة وفقاً للمناسبات المختلفة (مثل عيد مارّ أفرام). كانت هذه اللقاءات ذات فائدة وأحياناً مزعجة؛ بسبب الأسئلة الّتي لم يتمّ دراستها جيّداً؛ نظراً لجهل بعض الأشخاص بأساليب الحوار. وتواصلت اللقاءات وتغيّرت اللجان، وكانت لجنة الصالة ناجحة أيضاً في أيّام ملفونو عبّود قريو وملفونيثو لوسين كردو. قدّموا العديد من المحاضرات الدينيّة والثقافيّة، ولم تكن اللجنة الخيريّة هي الحصر الوحيد لهذه الندوات، بل شملت فئات الشعب كافّة.
وهنا أذكر أنّ الكثير من المحاضرات الدينيّة والتثقيفيّة والاجتماعيّة قدّمت في هذه الصالة. وكنّا دائماً نسلّط الضوء على المؤتمرات الّتي يحضرها نيافة المطران أو حضور شخصيّات مهمّة إلى حلب، وعن المناسبات الخاصّة مثل الأعياد السيّديّة أو القدّيسين، وبخاصّة عيد مارّ أفرام. وحاولنا أيضاً في أيّام رئاسة ملفونو جورج عبد النور للجنة الخيريّة أن تكون الجلسات مفيدة كمحاضرات حول المجامع المقدّسة وعن السيفو، وكما حدث في محاضرة الدكتور ميشيل أسعد عن التراث السريانيّ، أو عندما قدّم “جامعوا التراث” كلّ ما توصّلوا إليه خلال 10 أشهر أو أقلّ. ويجدر الإشارة إلى أنّ معظم المحاضرات كانت من تقديم السيّدات.
إخوتي، عندما يتمّ تنظيم لقاء شامل يستهدف جميع الفئات ويكون متنوّعاً، فإنّ الفائدة تكون أكبر بلا شكّ.
إذا نسيت بعض الأمور، فلن أنسى ذوي الاحتياجات الخاصّة، فهم بشر مثلنا. يقدّمون كلّ ما لديهم من مواهب، إن سمحنا لهم. يأخذون ويعطون، يخدمون ويخدمون. ليتنا نقدّر عمل اللّه بمنحهم فرصاً في الحياة.
دخلت المرأة الرهاويّة ذات الاحتياجات الخاصّة منذ التسعينات معترك الحياة في المجالات كلّها: الدراسة والعمل والمسرح. أذكر في عام 1996، نالت ماريت شربتجي ولويزا لويس إدور الميداليّة الذهبيّة في الألعاب القوى، وسافرتا إلى مصر والعراق والأردنّ للمباريات. وما زالت حتّى اليوم، لويزا إدور تعمل على المسرح. وليّ الفخر أن أذكر الملفونيثو ليلى دلي أبو الّذي تنشد في الكنيستين السريانيّة والروم الأرثوذكس مع الشمامسة، وتعلّم اللغة السريانيّة في مدرستنا والدورات، وفي جامعة حلب.
ممّا يعجبني وأفتخر به في كنيستي، أي شعبي، هو أنّهم مبدعون ومميّزون في عملهم، حتّى في التدريس. إحدى المدرّسات الرهاويّات كانت تدعى “ملكة”، وكانت متميّزة في تدريس اللغة الإنجليزيّة في التربية والتعليم بحلب منذ التسعينات وحتّى اليوم.
بقي أن أذكر النشاط الدينيّ الفريد من نوعه في كنيستنا السريانيّة، وهو قراءة وتفسير الكتاب المقدّس. بعد مناقشات وتحدّيات كثيرة، بدأت المرأة الرهاويّة، بمساعدة وإشراف رجال الدين، في الانطلاق بهذا النشاط في شتاء عام 1995، بحضور قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني (وقتها كان راهباً). وانطلقنا بشكل أقوى في بداية شهر نيسان مع ثلاث مجموعات: مجموعتان صباحيّتان للسيّدات، ومجموعة مسائيّة تضمّ الرجال والنساء في حيّ السريان، ثمّ امتدّ النشاط إلى كنيسة مار أفرام في السليمانيّة. استمرّت الدورة المسائيّة حتّى عام 2014. ونحن الآن مستمرّون، ولكن بمجموعة واحدة تضمّ منتسبات من عدّة كنائس.
في السنوات الأولى، كان المرشد الروحيّ والمتضامن معنا كلّيّاً هو نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، وكان بين الحين والآخر يلقي علينا محاضراته الشائقة. ثمّ طلب من الأب جورج كلور أن يرافقنا ويحضر معنا، وكان خير معيّن لنا، يرافقنا ويساعدنا. وبعد ذلك، وبعد اليوم المشؤوم (اختطاف نيافة المطران يوحنّا إبراهيم)، تركنا لأنّ مسؤوليّاته زادت في المطرانيّة.
أمّا في الكاتدرائيّة، كان أبونا كيرلس بابي (الآن المطران كيرلس) يساعدنا ويرافقنا، وبعده ساعدتنا ورافقتنا الراهبة هيلانة. وعندما وصل المعتمد البطريركيّ (نيافة المطران مار بطرس قسّيس)، استدعاني وأعطيته المعلومات الكاملة، عن كيفيّة عمل هذه الدورات الكتابيّة، فأصبح خير مشرّف للدورات الكتابيّة، وحتّى الآن يرشدنا ويدعمنا مادّيّاً ومعنويّاً. قمنا بعدّة نشاطات في صيدنايا ومرمريتا وكسب والأرض المقدّسة، وأخيراً في دير الفرنسيسكان، وكانت جميعها رياضات روحيّة. قمنا أيضاً بإقامة الصلوات والابتهالات والتضرّعات في الأيّام الصعبة.
لم تتوقّف المرأة الرهاويّة عند إلقاء المحاضرات في دورات الكتّاب المقدّس، بل شاركت أيضاً في العديد من النشاطات الكتابيّة (الكتّاب المقدّس) في الكاتدرائيّة وكنيسة السيّدة العذراء. وأخيراً، تقوم المسؤولة بتفسير إنجيل يوحنّا عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ المختلفة.
في الألفيّة الثالثة، تبوّأت المرأة السريانيّة الرهاويّة مناصب عديدة، مثل: مديرة شركة، محاسبة قانونيّة، محاسبة في نقابة المهندسين، مديرة بنك، مديرة مدرسة، محاضرة جامعيّة، عضوة في مجلس المدينة، عضوة في الهيئة الاستشاريّة في الكنيسة، عضوة في المجلس المليّ، رئيسة مركز التربية الدينيّة والخدمة الاجتماعيّة، عضوة في المحكمة الروحيّة، مسؤولة في تفسير الكتاب المقدّس، محاضرة ثقافيّة، محاضرة دينيّة واجتماعيّة، رئيسة أخويّة، رئيسة عائلات في الكنيسة، وكيلة كنيسة، مسؤولة عن جوقة الكنيسة، ناقدة في أمور دينيّة وكنسيّة، وما إلى ذلك.
صورة تجمع كل من الملفونيثو فريدة بولص مع الشماس الإنجيلي جورج قمر مع الاكليروس
إخوتي وأبنائي، هذا مجرّد جزء بسيط؛ ممّا أعرفه وأتذكّره عن الكنيسة الّتي عشت فيها، والتجربة كانت حلوة في الغالب، رغم أنّها مرّت ببعض التحدّيات أيضاً. أناشد الجميع أن يخدم ويقتدي بالسيّد المسيح الّذي جاء ليخدم وليس ليخدم. عندما أقول “كنيستي”، أقصد بأنّها تعود للجميع، ورأسها هو يسوع المسيح الّذي يستحقّ كلّ المجد والتسبيح، آمين.
صورة متنوعة
هيكل كنيسة مار جرجس بحلب، حي السريان.
جوقة الرها السريانية بقيادة الملفونو نوري اسكندرـ 1986