الملفونو أفريم جورج بيشار 

حلب ـ سوريا
aphrembashar@gmail.com
المهندس أفريم جورج بيشار من مواليد حلب عام 1956. درس الابتدائيّة والإعداديّة في مدارس حمّص وبيروت والمرحلة الثانويّة في حلب. تخرج من جامعة حلب، كلّيّة الهندسة الكهربائيّة والإلكترونيّة في عام 1981. عمل كمهندس في وزارة الكهرباء ثمّ في مكتبه الهندسيّ الخاصّ في حلب. عضو في عدّة جمعيّات علميّة وأهليّة. في المجال الكنسيّ، شارك كعضو وإداريّ في العديد من الأخويّات، وكعضو في عدّة دورات في المجالس المليّة لكنيسة مار جرجس السريانيّة الأرثوذكسيّة في حيّ السريان في حلب. له العديد من المقالات العلميّة والاجتماعيّة منشورة على المواقع الإلكترونيّة، ويهتمّ بالتراث السريانيّ الرهاوي اللامادي.


عدد صفحات المشاركة 8 صفحات (A4) .

لهجتنا المحكية الأورفلية … إلى أين؟

 

مقدمة

قد تبدو مقالتي هذه، بمناسبة الذكرى المئويّة لهجرتنا من الرها، قصيرة ومحدودة في الكلمات، ولكنّها تتطرّق بتركيز شديد إلى موضوع هامّ يمتدّ لمئات السنين، وهو لغة التواصل بين أفراد أجدادنا وشعبنا الرهاوي، والّتي تمثّلها لهجتنا المحكيّة (الأورفليّة). كما هو معلوم لديكم، فإنّ أيّ لغة كانت هي ليست مجرّد وسيلة للتعبير والتواصل بين الأفراد، وإنّما هي بوتقة ينصهر فيها منطق وأسلوب تفكير جماعيّ للشعب، وتراث ثقافيّ وإرث حضاريّ متراكم عبر السنين الّتي مرّت على مستخدميها.

دعونا نبدأ من التاريخ وتحديداً بعد أواخر عصر ازدهار مملكة الرها، والّتي كانت أوّل مملكة مسيحيّة في التاريخ، وشهيرة في العالم المتمدّن بأنّها مكان مولّد الفلسفة والأدب السريانيّين. ومع ذلك، لم تذكر الوثائق التاريخيّة شيئاً عنها وعن اللغة السريانيّة الّتي كانت اللغة الشائعة والمحكيّة بين أفراد هذه المملكة.

 

تحولات لغوية: من السريانية إلى التركية والأرمنية

لا يُعرف بالضبط متى فقد السريان الرهاويّون لغتهم تماماً، وبدأوا بالتحدّث بالأرمنيّة والتركيّة، ولكن من المرجّح أنّ ذلك حدث في الفترة ما بعد القرن الثاني عشر الميلاديّ، بعد أن تعرّضت الرها لنكبتها العظمى المروّعة في عام 1146 م. حيث عانت المدينة من مآسي الدمار والنفي والأسر والسلب والنهب على يد المحتلّين، في سلسلة من الحروب والاحتلالات بين الصليبيّين والمماليك، وبقائها أخيراً تحت سيطرة المماليك، ومن بعدهم الأيوبيّون، إلى أن تمّ دمج المدينة في الإمبراطوريّة العثمانيّة في حملة قادها مراد الرابع في عام 1737.

يسكت التاريخ عن الحديث عن الرها تقريباً بعد مجزرة عام 1146. وكان السريان يشكّلون أغلبيّة سكّانها حتّى ذلك الحين، كما يروي سيغال في كتابه “الرها المدينة المباركة”. ويذهب البعض إلى أنّ الرهاويّين السريان الأصليّين قد أبيدوا في تلك المجزرة وما بعدها، وأنّ السريان الرهاويّين الحاليّين هم نازحون من القرى والمناطق المجاورة للرها. وقد تضاءلت الطائفة المسيحيّة في المدينة، ولم تستعد قواها منذ ذلك الحين، وأصابت المدينة الانحطاط على مرّ الزمن، وغابت للأسف كمدينة رئيسيّة في الإقليم في طيّات غموض نسبيّ.

تدلّ الإحصاءات المنشورة سنة 1908 باللغة التركيّة أنّ عدد سكّان قضاء أورفا (أورفا والمناطق التابعة لها، وتضمّ بيراجيك وسروج وقلعة الروم وحرّان) الّتي كانت تابعة لولاية حلب بحسب تنظيمات الحكومة العثمانيّة، كان 71712 نسمة، وكان عدد السريان 2234 فقط (أي حوالي 3%)، في حين بلغ عدد السكّان الأرمن 11550 نسمة، وهو خمسة أضعاف السريان (أي 15%). وهذا يبيّن السبب الّذي جعل السريان الرهاويّين يفقدون كيانهم ولغتهم، ويتحدّثون بلغات أجنبيّة وخاصّة الأرمنيّة.

بناء على ما تمّ ذكره في النصّ، يمكننا القول بأنّ مدينة الرها لم تعد محصورة بسكّانها الأصليّين فحسب، بل قد دخلها واستوطنها عدد كبير من الشعوب والأعراق المختلفة، بما في ذلك الفرنجة والأتراك والأكراد والعرب والأرمن وشعوب أخرى من الأقاليم المجاورة.

أحد أهمّ التأثيرات على شعبنا السريانيّ الرهاويّ كان تأثير اللغة التركيّة واللغة الأرمنيّة، خاصّة الأرمنيّة والّتي ولدت منها لهجتنا الأورفليّة المحكيّة، حيث تشاركنا نحن السريان وأخوّتنا الأرمن نفس اللهجة المحكيّة، واختلفنا عنهم بأنّنا لم نستخدم لغة ثانية مكتوبة ومتداولة مثل الأرمنيّة الفصحى، فالسريانيّة انقرضت بين العامّة، ولم تعد متداولة بين الناس إلّا بالطقوس الكنسيّة. وقد أدخل السريان كلمات تركيّة لسدّ الفراغ اللغويّ الحاصل نتيجة تطوّر الزمن ودخول وقائع وأحداث وموادّ وأدوات إنتاج جديدة.

 

تحولات في الاستخدام اللغوي: العربية تحل محل الأورفلية

وهكذا استقرّت الأمور على هذا النحو لفترة طويلة عاشها شعبنا، إلى أن تغيّرت الأمور فجأة بقرار الهجرة الجماعيّة في عام 1924، وترك الديار (ترك فاتان) وانتقلوا جنوباً إلى المدن الحدوديّة في سوريا، وتحديداً إلى حلب، والّتي كانت مركز ولاية أورفة في أيّام العثمانيّين. ونظراً لتواجدهم في حلب حيث اللغة المتداولة هي العربيّة، بدأوا تدريجيّاً استبدال الكلمات التركيّة بالعربيّة، وحتّى الصلاة والتراتيل الّتي كانت مزيجاً من السريانيّة والتركيّة في أورفة، استبدلت التركيّة بالعربيّة في كنيستنا مار جرجس بحيّ السريان بأواخر الستّينات وأوائل السبعينات، بعد تقاعد الكاهنين القسّ أداي (عيسى توما) والقسّ حبيب (عبد المجيد زكريّا توكمه جي).

ومن الجدير بالذكر أنّه بقيت ترنيمة واحدة فقط من الألحان الرهاويّة الأصيلة ترنم ببعض أبياتها باللغة التركيّة لغاية الآن، وهي ترنيمة (جولجله دان)، وتردّد هذه الترنيمة خلال زياح ودورة التابوت المقدّس في يوم الجمعة العظيمة في كنيستنا بحيّ السريان.

 

تراجع اللهجة الأورفلية بين الشباب

مع تطوّر الزمن وحداثة أساليب الحياة والاندماج بالمجتمع المحلّيّ وانتشار التعليم بين أفراد الأجيال اللاحقة من شعبنا، بدأنا نشهد تراجعاً متسارعاً في استخدام لهجتنا الأورفليّة بين الشباب، حيث أصبحت اللغة العربيّة هي وسيلة التواصل والتعبير الشائعة بينهم. وحاليّاً، يمكننا القول بأنّ هذه اللهجة شبه منقرضة، أو في طريقها إلى الاندثار، نظراً لوفاة الرعيل الأوّل والجيل الثاني من المهاجرين.

بالطبع، يتطلّب الدخول في تفاصيل اللهجة المحكيّة وشرح معاني وأصول مفرداتها الاستعانة بقاموس أو مجلّدات عديدة وتصنيفها وفقاً لموضوعاتها، وليس لدينا هنا في هذه اللحظة الوقت الكافي للتفصيل في هذا الموضوع. على سبيل المثال، كلمة “Parev” الّتي نستخدمها للتحيّة تعود أصولها التاريخيّة إلى حقبة ما قبل المسيحيّة عند الأرمن، عندما كانوا يلقون التحيّة على الإله “آر”، الّذي كان يرمز إليه بالشمس الّتي دعيت “آريڤ”، وعلى هذا كان يقال “باري آريڤ” أي: “شمس خيرة” أو “شمس طيّبة”. ولاحقاً، تطوّرت الكلمة إلى “باريڤ”.

والآن دعوني أقدّم لكم بعض النماذج وهي غيض من فيض؛ ممّا سمعناه وتعلّمناه من أهلنا وأجدادنا، ولنبدأ بالهنّاهين والأهازيج الشعبيّة الّتي كانت تغنّى للأطفال بلهجتنا الأورفليّة.

 

Jor Jor Jor kena
Yel vazeh mamonsk kena
Des Mamaan inch gepeya
Boulghour aboor gepeya
Ger ger geshtassir
Tapsin looksour aar pakheer

الترجمة بالعربية :
جور جور، جور روح
قوم عجل وروح لبيت ستك
شوف ستك شو عم تطبخ
عم تطبخ برغول آبور
كول كول واشباع
عبي الجاط خدو وأركض
تنويه : بلهجتنا الأورفلية لا نميز بين كلمة ” اركض ” و ” أهرب ” فكلاهما لدينا كلمة “باخير” pakheer

وأيضاً من أهازيجنا الأورفلية التي تُغنّى للأطفال:
Gar gar gar
Goor goor goor
Meneh ego bakmi door
Amenoun divir kinass
Imisa kovis menass

الترجمة :
غار غار غار (قد يعنون بها خياطة خياطة خياطة)
غور غور غور ( قد تكون مختصر غورغوردوك أي الرعد)
يا “منيه ” تعي اعطيني بوسة
أعطيتي الكل وراحت
وتبعتي (يعني بوسيتي) بقيت عندي

ومن بعض الأمثال والأقوال الشائعة بلهجتنا:
– هامديس هامديس قوشخانان ايغاف غيس – بمعنى من كثر تذوق الطعام أثناء طبخه أصبحت الطنجرة بنصف ما فيها
– شون شون ايغو انزي خاز – بمعنى يا كلب يا كلب تعال عضني، ويستخدم عندما يستجلب المرء البلاء لنفسه بتعاطيه وتدخله مع شخص مؤذي
– باراب ساراب – بمعنى عطال بطال وليس لديه لا شغل ولا مشغلة
– ايشاك أفاناغ – بمعنى حمار وأهبل.

أمّا فيما يتعلّق بالتوصيف والتشبيه في لهجتنا الأورفليّة، فكما هو الحال في معظم اللغات واللهجات، استخدم أجدادنا العديد من عبارات التوصيف والتشبيه عند وصف شيء أو حالة ما لتأكيد المعنى وتقريب الفكرة، أو للاستهزاء. ومن بين هذه التشبيهات كـ “أبيض كالثلج” و”أسود كالفحم” وغيرها.
وفيما يلي، سأورد بعضاً من هذه العبارات دون ترتيب معيّن، الّتي تتميّز بالغرابة والطرافة وحسّ الفكاهة. وأودّ أن أعتذر مقدّماً إذا كانت بعض الألفاظ الّتي سأذكرها يمكن أن تكون خادشة للحياء أو غير لائقة بالنسبة للبعض، ولكنّها في الواقع جزء من تراثنا الشعبيّ المتداول.

• شاهران تشارباني تاك كيمين (Sharan sharpany tak kimin) بمعنى خلقته جافة وقذرة كفردة الشحاطة
• تشور تشوب كيمين (Tchor chop kimin) بمعنى ضعيف كالعودة الجافة
• خلينك كيمين (Khlink kimin) بمعنى مثل المخطة
• فرانكي تشوور كيمين أميين باني ميش كخارندفي (Frangy tchour kimin amen pani mesh gkharndvi) بمعنى كدبس البندورة ينحشر بكل شيء
• جموسمي قاجاك (Joumosmi kajak) بمعنى قد الكمشة
• ضيرطمي قاجاك ( Dertmi kajak) بمعنى قد “الضرطة”
• آربا تشاربا (Arpa charpa) هي تركية الأصل ونستخدمها للكلام غير المجمع أو يتكلم شروي غروي
• شبووس كيمين (Shepos kimin) بمعنى مثل كيس الحمام
• فير سربوس كيمين (Ver serpos) بمعنى مثل ورق التواليت
• تشور شاهرا (Chor shara) بمعنى الخلقة الجافة غير البشوشة
• بزيزي آشك (pezezi ashk) لتشبيه العيون الصغيرة كعين الصرصور
• فصفصي آشك (Fesfesi ashk) لتشبيه العيون الصغيرة كعين الفسفس
• جيراني آشك (Jeyrani ashk) لتشبيه العيون الجميلة كعين الغزال
• طورماز خاص كيمين (Tormaz khass kimin) بمعنى مثل الخس الذابل
• طورماز ضال / يابراغ كيمين (Tormaz dal/ yapragh kimin) بمعنى مثل الغصن / ورق النبات الذابل
• زاعيف تشوب كيمين (Zaieef chop kimin) بمعنى ضعيف كالعودة الجافة
• دافوو فوتك كيمين (Davoo votk kimin) للتشبيه لكبر القدم بقدم الجمل
• مللارا كيمين (Mellara kimin) للتشبيه بالطول أو بارتفاع القامة كالمئذنة
• تشابوود كيمين (Chappood kimin) مثل الخرقة.
• كور تاناغ (kor tanag) بمعنى السكينة المثلومة غير الحادة وتستخدم للتشبيه بعدم النفع كالسكينة الثلماء.
• فستغ بندغ كيمين (Festegh bendegh kimin) للتشبيه بالطعامة والحسن كالفستق والبندق
• دومالا كيمين / ضولما كيمين كينت أووني (Domala / dolma kimin keent ouny) لتشبيه الأنف الكبيرة كالمحشي أو كالكمأة.
• آفيل كيمين مازا شالاغا برتسيريه (Avel kimin maza shalaga pertsereh) بمعنى فالتة شعرها مثل المكنسة على ظهرها.

الملحق (سيز) الّذي يستخدم بلهجتنا الأورفليّة هي كلمة تركيّة تعني (بلا) أو (عديم) ونستخدمها بكثرة في التوصيف. وسأسرد بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:

• خير سيز : ما منو خير
• تربيا سيز : عديم التربية
• ناموص سيز : عديم الشرف
• تشانكا سيز : ثرثار
• تشهرا سيز : خلقة بشعة
• أخلاق سيز : بلا أخلاق
• أداب سيز : بلا أدب
• فايضة سيز : بلا نفع
• ( فايظ سيز : بلا فائدة (بلا ربا
• فاصتاك سيز : بلا ربح
• كار سيز : بلا مهنة
• كورز سيز : بلا عمل
• هام سيز : بلا طعمة
• دانك سيز : ثقيل الدم
• قفا سيز : بلا راس
• ايمان سيز : عديم الايمان
• حايا سيز : عديم الحياء أو سفيه
• ترتيب سيز : عديم الترتيب
• خيلك سيز : بلا عقل
• صبر سيز : عديم الصبر
• خولق سيز : ضيق الخلق

التسجيل الصوني: شكراً للسيد ريمون مناز ـ السويد

 

خاتمة

يمكن أن يكون الحلّ لمشكلتنا مع اللغة على النحو الآتي:

1- تعزيز تعليم اللغة السريانيّة وتشجيع استخدامها، وهي اللغة الأمّ لشعبنا. ويتطلّب ذلك توفير عدّة عوامل ومبادرات، وخاصّة مع وجودنا في حالة شتات وبيئات مختلفة في البلاد والمهجر.

2- الحفّاظ وبالتوازي على اللهجة المحكيّة لأجدادنا، إذ إنّها جزء من تراثنا اللامادي، ويمكن تدوينها عن طريق توفير الأحرف المناسبة لها، والّتي تضبط النطق واللكنة الصحيحة لكلماتها، وتوثيق هذه اللهجة عن طريق فيديوهات وندوات وعروض مسرحيّة وبرامج مصوّرة، والاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة.

أتمنّى أنّني قد أثّرت الانتباه بهذه العجالة حول هذه القضيّة التراثيّة والتاريخيّة، ونحن الآن على عتبات الذكرى المئويّة لهجرتنا. فمن الطبيعيّ أن تتبدّل كثير من أمور الحياة والمفردات علينا، إذا مرّ قرن على شعبنا في بيئة حاضنة جديدة، بعيداً عن موطنه الأصليّ الرها. حيث مرّ بظروف صعبة وقاسية في البدايات، إلى أن استطاع بهمّته، وتضافر أبناؤه وتعاضدهم من إعادة بناء مجتمعهم وتطوير مؤسّساتهم الدينيّة والاجتماعيّة.

 

المراجع:

1. من الذاكرة الشعبيّة
2. كتاب المطبخ السريانيّ الرهاوي للأب الدكتور جوزيف ترزي
3. كتّاب القافلة الأخيرة للملفونو يوسف نامق
4. الرها المدينة المباركة – تأليف ج. ب. سيغال
5. الصليبيّون في الشرق – تأليف ميخائيل زابوروف

 

 

error: