الملفونو جورج فهمي طحّان

باريس ـ فرنسا
geobarsa@hotmail.com
الدكتور جورج فهمي طحان، من مواليد حلب 1963. درس الابتدائيّة في مدرسة بني تغلّب الثانية، كما درس الإعداديّة والثانويّة من مدرسة الكيالي في حلب. حاصل على شهادة في طبّ الأسنان من جامعة حلب عام 1987، وأيضاً العديد من الشهادات في زراعة الأسنان. بدأ مسيرته في خدمة الربّ عام 1980 مع الشبيبة الطالبة المسيحيّة J E C ولجنة الرسالات. بدأ الخدمة في كنيسة مار جرجس في حيّ السريان عام 1982 مع أخويّة الإيتاس كمسؤول دينيّ، ثمّ رئيساً للأخويّة لعدّة سنوات وأيضاً رئيساً لأخويّة مار رابولا للطلبة الجامعيّين، ورئيساً لأخويّة ابن العبريّ للخرّيجين الجامعيّين، كما كان أميناً للسرّ لمركز التربية الدينيّة، وقد ابتعد عن الخدمة لدواعي السفر. الدكتور طحّان متزوّج من السيّدة فلورينا توكمه جي، ومقيم منذ عام 2012 في فرنسا. يُهدي عمله إلى والدته الّتي يعتبرها بمثابة الوطن الحقيقيّ.


عدد صفحات المشاركة 21 صفحة (A4) .

العلماني في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية

 

أوّلاً: عندما توجع الذكريات!

كنت أسير خلفها بوهن وترهّل، وأنا أمسك بقوّة برداء أمّي، الرداء الطويل المزركش بورود ملوّنة، فوق سروال طويل. الرداء الّذي طالما أحببته؛ لأنّه يذكّرني بحقول الضيعة في فصل الربيع. أمّا أخي، فكان متعلّقاً بردائها من الطرف الآخر.
تشبّث بقوّة، قالت أمّي بصوت متهالك وحازم: “كنت لا أرى إلّا أقداماً متلاصقة متزاحمة شبه حافية، تدبّ بصعوبة فوق أرض موحلة على درب يبدو بلا نهاية”. “أمّي، أين أختي الصغيرة؟” سألت، ولكنّني لم أسمع ردّاً. تابعت السير دون توقّف، متمسّكاً برداء أمّي جيّداً. كنت أسمع صوت ضجيج الأقدام المتلاطمة على الوحل والطين، ونحيباً وتأوّهات من هنا وهناك، تختلط مع أصوات صراخ وعواء رجال أشرار، كأصوات ذئاب جائعة.
موكب طويل وزحف من البشر كنهر راكد متثاقل. “أمّي، أين هي أختي الصغيرة؟” سألت مرّة أخرى، ومرّة أخرى لم أسمع ردّاً. كنت أعتقد أنّ أبي تائه بين رجال القافلة، في وسط هذه الزحمة والضجيج.
لم أكن أفهم ما هي القصّة وماذا يحدث، ولماذا نسير؟ وإلى أين نسير؟ ولماذا غادرنا بيتنا ولمن تركنا ضيعتنا؟ واحتشد في رأسي مئات الأسئلة، فعقلي الصغير لم يكن جاهزاً ليستوعب ويدرك حجم الكارثة.

سألت مرّة ثالثة، وبإلحاح، طفل بريء لا يكلّ من التكرار: “أمّي، أين هي أختي الصغيرة؟” ومرّة أخرى لم أسمع ردّاً… لا تتكلّمي كثيراً، فقط تابعي السير!! ولكنّ هذه المرّة، شعرت بقطرات ماء دافئة تغسل جبيني، قطرات طعمها مالح بطعم الدمع والدم. قطرات طهرتني وقدّستني. قطرات نقيّة كمياه المعموديّة. أدركت فيما بعد أنّ هذه القطرات هي قطرات مقدّسة طاهرة، قد قدّستني وعمدتني بمعموديّة درب صليب جديدة، درب رحيل وهجرة نحو مجهول.

لا أدري كم كان الدرب طويلاً، ولا أعلم كم طال الزمن، ولا أعلم كم مرّة أشرقت الشمس وكم مرّة أطلّ القمر. ولكن أدرك أنّنا مشينا دهراً من الزمن ’ دهراً” من الخوف والرعب والألم والقلق.

حتّى حطّت بنا الرحال في أرض جديدة، بسماء جديدة وشمس جديدة. وأهلها يتكلّمون لساناً لا نفهمها. في هذه الأرض، قالت أمّي: “هنا سيكون وطننا”.

لم أستوعب حينها ما معنى الوطن، ولماذا يكون هنا. ألم يكن لنا وطن قبل أن نرحل؟ هل الوطن هو هذه الخيمة؟ هل الوطن هو الكنيسة أو المدرسة أو الحيّ؟ أم أنّ الوطن هو أمّي… الأمّ؟!

كبرت على هذه الأرض الجديدة، في هذا الوطن الجديد. كنت أكبر بكثير من الحبّ والخوف وبكثير من الدموع، حتّى آمنت بأنّ اللّه يسكن في دمع الإنسان، آمنت أنّ اللّه حين طرد الإنسان من الجنّة ترك مياه ينبوع الجنّة في دموعه كي يشتاق للفردوس. وكلّما كنت أكبر في العمر كان الوطن يصغر في أعماقي حتّى بات مقتصراً على الكنيسة والطائفة والحيّ.

كبرت وتلاشى أمل اللقاء بأختي وأبي. كبرت وكبر رأسي ونما عقلي، وبدأت استيعاب ما حدث. في يوم من الأيّام، زارنا رجل يرتدي ثياباً قرويّة قال بأنّه ابن أختي. لقد تركت أمّي أختي الصغيرة لدى عائلة في ضيعتنا لتهتمّ بها، أمّا أبي فقد قتل على يد الأوغاد. في طفولتي المبكّرة، نشأت وترعرعت في إحدى الحارات الّتي تقع في الأطراف الجنوبيّة الغربيّة من الحيّ. حارّة ترابيّة مثل معظم حارات الحيّ في ذلك الحين. كانت الحارة ذات أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة، حيث كانت تتقاطع مباشرة مع شارع سوق الخضرة. أحد الشوارع الحيويّة والرئيسيّة جدّاً الّتي تجمع سكّان الحيّ مع بداية كلّ صباح. يأخذك هذا الشارع من النهاية الشماليّة لكنيسة الحيّ، الّتي تعتبر أهمّ وأقدّم وأقدّس صرح في المنطقة.

كان منزلنا مجاوراً لمصنع النسيج اليدويّ المعروف باسم “قاساليغ” (Quasallig)، الّذي يعرف حاليّاً باسم عمارة الأخوين جولاق. كان المصنع يضمّ مجموعة من رجال الحيّ الّذين يمتهنون حياكة النسيج بواسطة آلات يدويّة تسمّى النول، حيث يحيكون الأقمشة ويعتاشون من عائداتها. من هنا، ومن هذا المكان حاك أهلنا النسيج ليعيشوا وحاكوا النسيج الاقتصاديّ والعمراني والروحيّ والثقافيّ لنحيا نحن.

نسجوا لنا شريان الحياة كي نستمرّ في قصّة الخلود، من هذا المصنع البسيط المليء بالحكمة وحبّ الحياة بكرامة وعزّة “المليء بالإيمان باللّه والكنيسة” المليء بأهمّيّة العلم والمدرسة شيّدوا لنا هذا الحيّ (حيّ السريان) الحيّ الوحيد الّذي سمّي باسم الشعب الساكن فيه شعب السريان الأرثوذكس لا بل صار الحيّ حيّين…. حيّ السريان القديم وحيّ السريان الجديد. نعم، أسمّيه الحيّ، لأنّه أعمق من كلمة الشعب، فالحيّ هو المكان بكلّ تفاصيله وأبعاده. إنّه الحارّات والأزقّة والبيوت والأهل والأقارب والجيران، وخزّان ذاكرة كلّ أيّام السنين الماضية والحاضرة. الحيّ يعني الحياة يعني المكان الممتدّة جذورها في عمق الزمان.

هؤلاء الرجال العظماء والنساء العظيمات والحكيمات والمدبّرات والمكافحات يداً بيد بنوا حاضرهم بواقعيّة ليؤسّسوا لأبنائهم مستقبلاً أفضل. بنوا المدرسة إيمانا بأهمّيّة العلم، وبنوا الكنيسة إيماناً بأهمّيّة الانتماء والارتباط المقدّس، وبإيمانهم بدور اللّه والروح القدس في إنقاذهم ومساعدتهم على تجاوز واقعهم الجديد والصعب.

فكانت المدرسة، مدرسة بني تغلّب الثانية، مصنعاً لفرز سيّدات ورجال مسلّحين بالعلم. فمنهم كانوا المعلّمات والمعلّمين، والمهندسين، والأطبّاء، وخرّيجي الجامعات بمختلف فروعها. وكذلك، رجالاً امتهنوا مختلف المهن والصناعات، ونجحوا وأبدعوا في كلّ المجالات. ولم يقتصر دورهم على ذلك فقط، بل تجاوزوا ذلك، وتميّزوا في مجال التجارة أيضاً، ممّا ساهم بشكل أساسيّ ورئيسيّ في رفع المستوى الاقتصاديّ لأهلنا في الحيّ.

وكانت الكنيسة “كنيسة مار جرجس”، والّتي ببركة وقوّة الروح القدس، وثقت العلاقة بين العائلات، وبنت مجتمعاً منظّماً، مؤمناً، ومترابطاً ومتعاضداً. قامت الكنيسة بتأسيس مؤسّسات مهمّة تهتمّ بتنظيم كلّ الأمور الإداريّة والماليّة والروحيّة والثقافيّة والعمرانيّة، وتسعى كلّ هذه المؤسّسات في النهاية لخدمة أهلنا في الحيّ.

كانت إدارة المجلس المليّ ولجان متعدّدة تعنى برعاية وخدمة الناس في الحيّ. من بين هذه اللجان كانت لجنة مواساة المرضى واللجنة الخيريّة وغيرها من اللجان الّتي تهتمّ برعاية الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، تمّ تأسيس نوادي رياضيّة مثل نادي الشهباء ونادي الجلاء، وأيضاً تشكيل الفوج السادس للحركة الكشفيّة والفوج الأوّل للمرشدات الكشفيّات.
في عام 1956، قامت مجموعة من الشباب، بقيادة المرحوم أبروهوم نورو، بتأسيس أخوية باسم الإيتاس، وهي تجمّع لطلّاب وطالبات المرحلتين الإعداديّة والثانويّة. استمرّت الأخوية لمدّة عامين فقط، ولم تحقّق النجاح المأمول، وذلك بسبب اعتمادها على الجهود الفرديّة.
في عام 1970، بجهود مجموعة من الطلّاب الجامعيّين وبالتعاون مع إدارة المجلس المليّ ورئيسه المطران جرجس بهنام (رحمه اللّه)، الّذي كان يؤمن بأهمّيّة ودور العلمانيّ في الكنيسة، تأسّست الأسرة الجامعيّة أو جمعيّة مار أفرام للطلّاب الجامعيّين السريان.
ثمّ مدارس الأحد أو الأحديّة، والّتي تهدف إلى الاهتمام بالتربية الدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لأطفالنا في المرحلة الابتدائيّة.

فالأسرة الجامعيّة، الّتي جمعت الشابّات والشباب الجامعيّين لمرعيث مار جرجس، وكذلك مدرسة الأحديّة، قدّمتا مجموعة واسعة ومميّزة من النشاطات الدينيّة والفنّيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. نجاح هذه المرحلة كان بفضل الجهود الكبيرة والمتفانية من قبل العلمانيّين، فكراً وتنظيماً وإدارة وتنفيذاً، وبالطبع تحت رعاية الكنيسة وراعي الأبرشيّة.
هنا سأتوقّف عن الدخول في تفاصيل المرحلة السابقة، والّتي بلا شكّ سيتناولها الأساتذة والأصدقاء الّذين عاشوا واختبروا تفاصيل تلك الحقبة الزمنيّة في تاريخنا. لأنّ مشواري الخدميّ بدأ عمليّاً مع تأسيس مركز التربية الدينيّة، وتحديداً بعد عام 1982.

في عام 1981 ومع جلوس مثلّث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس زكا الأوّل عيواص على الكرسيّ الأنطاكيّ للسريان الأرثوذكس، صدر قراراً تاريخيّاً غيّر شكل الخدمة ودور العلمانيّ في الكنيسة.
قرار بتأسيس مراكز التربية الدينيّة في جميع أبرشيّات السريان الأرثوذكس، بهدف جمع وضمّ جميع أبناء الكنيسة في مختلف مراحلهم الدراسيّة، بدءاً من المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة وحتّى الجامعيّة، وشملت أيضاً الفئة العاملة والمرأة والعائلة تحت جناحي الكنيسة.
وقد كانت كنيستنا كنيسة مار جرجس. بفضل جهود وحماس وحكمة راعي الأبرشيّة، المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم، الّذي تولّى رئاسة أبرشيّة حلب وتوابعها بعد استقالة المطران جرجس بهنام – بسبب تقدّمه في العمرـ السبّاقة في تطبيق القرار وتأسيس مركز التربية الدينيّة لكنيسة مار جرجس. وتضمّنت الأخويّات التالية:

مدارس الأحديّة: الّتي تضمّ طلّاب وطالبات المرحلة الابتدائيّة، وقد استمرّت بناء على ما تمّ تأسيسه سابقاً.
أخويّة الإيماس (ܐܚܘܬ݂ܐ ܕܐܝܡܐܣ): أخويّة طلّاب وطالبات السريان في المرحلة الإعداديّة.
أخويّة الإيتاس (ܐܚܘܬ݂ܐ ܕܐܝܬܐܣ): أخويّة طلّاب وطالبات السريان في المرحلة الثانويّة.

في هذه المرحلة، بقت الأسرة الجامعيّة مستقلّة عن مركز التربية الدينيّة، كذلك أخويّة مار يعقوب الرهاوي الّتي ضمّت الطبقة العاملة من المهنيّين والخرّيجين الجامعيّين من الشباب والشابّات في كنيسة مار جرجس.

يهدف مركز التربية الدينيّة، الّذي يعمل تحت شعار “إيمان، عمل، محبّة”، إلى جمع أبناء الكنيسة تحت سقف الكنيسة وتنظيم الأنشطة الدينيّة، مثل دروس وشرح للكتاب المقدّس والطقوس الكنسيّة، بإشراف خدّام من الشبيبة العلمانيّة والمرشد الروحيّ لكلّ أخويّة. وبالإضافة إلى ذلك، يتمّ تنظيم أنشطة اجتماعيّة وثقافيّة وتربويّة وترفيهيّة بهدف رفع المستوى الفكريّ والاجتماعيّ والدينيّ لأبناء الكنيسة.
إنّ البرامج الأسبوعيّة لكلّ أخويّة كانت تنظّم وتحدّد من قبل إدارة كلّ أخويّة، حيث يقوم المسؤول الدينيّ والثقافيّ والاجتماعيّ بالتعاون مع المرشد الروحيّ بتحديد البرنامج السنويّ. وبالتّالي، كانت الخدمة تقوم على جهود فرديّة نابعة من ثقافة وخبرة كلّ خادم. لقد لعب العلمانيّ دوراً كبيراً ومهمّاً في هذه المرحلة، ولديه مساحة واسعة من الحرّيّة في المركز الّذي كان حديث العهد من حيث التجربة.

لن أطيل الحديث كثيراً عن تفاصيل نشاطات الأخويّات المتعدّدة الّتي تمكّنت من جمع مجموعة كبيرة من الشباب والشابّات تحت سقف كنيسة مار جرجس. ولكن مع حلول عام 1984، اتّخذ المجلس المليّ برئاسة نيافة المطران يوحنّا إبراهيم قراراً صادماً ومفاجئاً، وهو تجميد كافّة نشاطات أخويّات مركز التربية الدينيّة لكنيسة مار جرجس لفترة غير محدّدة، وحلّ إدارة المركز وإدارات الأخويّات تحت حجّة ترتيب بعض الأوراق.

في الحقيقة، لم يكن القرار عبثيّاً أو مزاجيّاً. لقد لاحظت إدارة المجلس المليّ انحراف خطّ مسار الأخويّات بعيداً عن الأهداف الرئيسيّة لمركز التربية الدينيّة، وباتت بعض الأخويّات ساحة لبث ونشر أفكار وأيديولوجيّات غريبة لا تتماشى مع أهداف المركز، وخاصّة في الأخويّات ذات الفئات العمريّة الحسّاسة مثل المرحلة الإعداديّة والثانويّة من قبل بعض المسؤولين أو الخدّام المتبنّين لهذه الأفكار مستغلّين منصبهم للتأثير على الشباب في مرحلة البناء الفكريّ والأيديولوجيّ.

بالإضافة إلى أخويّة مار يعقوب الرهاوي للشبيبة العاملة، الّتي كانت تديرها مجموعة من شبيبة الكنيسة مثقّفة ومميّزة وخبيرة، نشطت بنشاط مُلفت ومشعّ. قدّمت العديد من المحاضرات والندوات واللقاءات الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والترفيهيّة، ممّا جعلها مركزاً جاذباً وذا تأثير قويّ يفوق المجلس المليّ والمركز، سواء من الناحية الإداريّة أو الاقتصاديّة. ومن ناحية أخرى، كانت هذه الأنشطة غير متوافقة مع أهداف المركز الأساسيّة وهو اللقاء حول محور المسيح والكتاب المقدّس.

هنا، وبينما كان الخادم العلمانيّ كما ذكرت سابقاً يحدّد وينظّم ويدير جميع النشاطات الدوريّة، جاء هذا القرار ليلجم ويحدّد ويؤطّر هامش حرّيّة الخادم العلمانيّ، ويضع بعض الخطوط الّتي لا يحقّ له تجاوزها.
حينها كنت في سنتي الجامعيّة الأولى قادماً من أخويّه الشبيبة الطالبة المسيحيّة J.E.C بعد حادثة لقاء بين الملفونو أبروهوم نورو -رحمه اللّه- والأب حكمت جاموس -رحمه اللّه- المرشد الروحيّ لأخويّة ال J.E.C ومسؤول المكتبة الروحيّة حينها، وقد عُيّنت مسؤولاً عن النشاطات الدينيّة لأخويّة الايتاس وعضواً في أخويّة مار أفرام للطلبة الجامعيّين، وأتذكّر الكثير من اللقاءات الّتي كانت تنتهي بنقاشات حادّة وصدامات بين طرفين من خلفيّات أيديولوجيّة مختلفة، وقد استمرّت هذه المرحلة عامين فقط.

بعد عام واحد، أي في عام 1985 وبمتابعة السؤال والإلحاح من الشبيبة، أُعيد مركز التربية الدينيّة إلى الوجود بهيكليّة جديدة ووجوه جديدة وبتسميات جديدة لبعض الأخويّات. تمّ أيضاً تغيير أسلوب تشكيل الإدارة، حيث يتمّ تعيين رئيس المركز وإدارته من قبل رئيس وأعضاء المجلس الملّيّ، الّذي بدوره يعيّن ويوافق على رؤساء الأخويّات وأعضاء إداراتهم، بدلاً من الانتخاب الّذي كان معتاداً في أخويّة الطلبة الجامعيّين وأخويّة مار يعقوب الرهاوي. هذا يعني أنّ الأشخاص المعتمدين والمقبولين هم من الموثوق بهم والمرضيّين.

في هذا العام، بالتحديد، أخذ مركز التربية الدينيّة هيكليّته الحاليّة، حيث تمّ إنشاء أخويّة الأحديّة بتسميتها الجديدة وإدارتها الجديدة (أخويّة يسوع الطفل). وكذلك ضمّ أخويّة الطلبة الجامعيّين لمركز التربية الدينيّة باسم (أخويّة مار رابولا الرهاوي) للطلبة الجامعيّين بإدارة جديدة، وأخويّة مار غريغوريوس للطبقة العاملة بإدارة جديدة أيضاً، كبديل لأخويّة مار يعقوب الرهاوي. وقد تمّ توسيع نطاق المركز ليشمل جميع أفراد العائلة في كنيسة مار جرجس، حيث تمّ إضافة أخويّة السيّدة العذراء بإدارة ناعمة ورقيقة ومميّزة من حيث الفكر والنشاط والخدمة.

ولاحقاً، وبالتحديد في عام 1993، تأسّست أخويّة ابن العبريّ للمتخرّجين الجامعيّين كضرورة ملحّة لاستيعاب الفئة المتعلّمة في حقل الكنيسة، واستثمار مهاراتهم في مختلف مجالات الخدمة الكنسيّة، وتعزيز كلّ لجان العمل بالخدّام عند الحاجة.
وفي نفس العام، تأسّست عائلات مارّ جرجس، بداية بأربع عائلات هي:
عائلة المحبّة، وهدفها الاهتمام بالأخوّة ذوي الاحتياجات الخاصّة، ومن أحّد إنجازاتها تأسيس بيت المحبّة.
عائلة التربية، وتهتمّ بالعائلة ورفع وتبادل الخبرات في أفضل أساليب التربية الفكريّة والنفسيّة للأبناء.
عائلة الإيمان، واهتمامها بالناحية الدينيّة والكنسيّة للعائلة.
عائلة محبّي الكنيسة، وجمعت العائلات المهتمّة بالتراث الكنسيّ.
وهكذا امتدّت أجنحة الكنيسة لتحتضن جميع فئات العائلة (الكنيسة الصغيرة).

وبدأت مرحلة جديدة وهامّة في تاريخ مركز التربية الدينيّة، في خلال فترة قصيرة من الزمن وبجهود وإيمان راعي الأبرشيّة والمرشدين الروحيّين بأهمّيّة وضرورة الخدمة المميّزة الّتي يقدّمها المركز، وبجهود مجموعة من الخدّام الغيورين والمتحمّسين للخدمة، أصبح مركز التربية الدينيّة في كنيسة مار جرجس في حيّ السريان منارة للإشعاع، ونموذجاً لجميع مراكز التربية الدينيّة في الأبرشيّات، بتميّزها بكوادرها الإداريّة ونشاطاتها الدينيّة والروحيّة والفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والتربويّة والترفيهيّة.

وهنا سأذكر بعضها:
1ـ تأسيس مكتبة مار رابولا الرهاوي:
بجهود المرحوم الملفونو المهندس عفيف دكرمنجي، رئيس أخويّة مار رابولا للطلبة الجامعيّين حينها، وبالتحديد في عام 1986، وبالتعاون مع مجموعة من شباب وشابّات الأخويّة وبالاتّفاق مع إدارة المركز وراعي الأبرشيّة، تأسّست مكتبة مار رابولا الرهاوي. تمّ تخصيص وتجهيز غرفتين من المقرّ الصيفيّ للمركز (مقرّ نادي الجلاء سابقاً) لهذا الغرض.
استطاعت المجموعة استعادة أغلبيّة كتب الأخويّات، وأيضاً بفضل تبرّعات بعض المؤمنين وشراء بعض الكتب الأخرى، ممّا أدّى إلى ملء رفوف المكتبة. تمّ تنظيم المكتبة وفقاً لنظام ديويّ للمكتبات، وافتتحت لجميع أبناء الحيّ للاشتراك واستعارة الكتب، بما في ذلك الموسوعات والكتب الأدبيّة والتاريخيّة والدينيّة.

2ـ القدّاس الإلهيّ مساء يوم الثلاثاء:
كان غياب الشبيبة عن القدّاس الإلهيّ المقام صباح كلّ يوم أحد ملفتاً للانتباه، وخاصّة في المرحلة الإعداديّة والثانويّة والجامعيّة، بسبب الدراسة والعطلة الأسبوعيّة. لذا، اتّخذت إدارة المركز بالاتّفاق مع الآباء الروحيّين قراراً بتحديد مساء الثلاثاء من كلّ أسبوع لإقامة قدّاس خاصّ لأخويات مركز التربية الدينيّة. وكان هدفنا تشجيع الشبيبة على المشاركة في القدّاس الإلهيّ والصلاة الجماعيّة والمشاركة في الذبيحة الإلهيّة.
إنّ الطقس الكنسيّ في كنيستنا هو نشاط إكليريكيّ بحت، حيث يحتفل الكاهن بالقدّاس والمؤمنين يحضرون غير مشاركين فيه، أي أنّ المؤمنين غير فعّالين فيه. بينما القدّاس هو خدمة متّحدة ومشتركة وشاملة للجميع، حيث يحضره الجميع، ويشاركون فيه ويكونون فعّالين.
وقد كانت لي مساع جادّة لتطوير العلاقة من الحضور الانفعاليّ إلى المشاركة الفعّالة من قبل الشبيبة في أثناء القدّاس الإلهيّ. ومن أهمّ هذه المساعي كانت المشاركة في قراءات الرسائل وطباعة منشور يشمل التراتيل والقراءات والطلبات الجماعيّة، وحتّى مشاركة الكاهن في الوعظة الّتي تناقش هموم الشبيبة. ومع ذلك، لم تتمكّن هذه المساعي من الاكتمال تماماً.

3ـ عيد القدّيس مار جرجس، شفيع كنيستنا:
تقليداً، تحتفل كنيستنا بعيد القدّيس مار جرجس في السادس من مايو من كلّ عام. وبهذه المناسبة، ينظّم مركز التربية الدينيّة، بمشاركة جميع أخويّاته، أسبوعاً كاملاً من الأنشطة الفكريّة والأدبيّة والدينيّة، بما في ذلك المحاضرات والأمسيات الموسيقيّة والندوات الشعريّة. يتمّ افتتاح الأسبوع بمعرض للكتاب يشارك فيه أهمّ وأكبر دور النشر، مثل مكتبة العائلة والمكتبة الروحيّة ودار الكتاب المقدّس، بالإضافة إلى العديد من المكتبات الخاصّة والمتميّزة. وقد أصبح المعرض تقليداً سنويّاً مرتبطاً بالاحتفاليّة. يتمّ افتتاح المعرض من قبل راعي الأبرشيّة في يوم الأحد بعد القدّاس الإلهيّ. وقد ساهم المعرض في نشر الكتب ووصولها لكلّ بيت، كما كان يعدّ مصدراً هامّاً لتزويد مكتبة مار رابولا بالمطبوعات والمنشورات الحديثة.

تأسيس مجلّة شهريّة خاصّة بمركز التربية الدينيّة بعنوان ܡܶܠܬ݂ܐ تنشر فيها مقالات دينيّة وفكريّة وتاريخيّة من تأليف أعضاء الأخويّات، بالإضافة إلى نشاطات المركز. وغالباً ما تكون المقالة الافتتاحيّة لراعي الأبرشيّة.

5ـ دورة إعداد وتأهيل قادة وخدّام لمركز التربية الدينيّة:
نظراً لتوسّع فروع المركز وزيادة نشاطاته المميّزة، من دورات للشهادة الإعداديّة والثانويّة ودورات في الموسيقى والرسم، أصبحت الحاجة ملحّة لاستقطاب كوادر شابّة تدخل مجال الخدمة، وتجعل الخدمة مميّزة. لذلك قرّرنا إقامة دورات سنويّة لإعداد الخدّام، لتوفير شباب مؤهّل للخدمة لأخويّات المركز. في عام 1992، أقمنا الدورة السنويّة لإعداد الخدّام الّتي استمرّت لمدّة عام كامل. خلال الدورة، تمّ عرض ندوات ومحاضرات دينيّة ولاهوتيّة ونفسيّة تربويّة، بالإضافة إلى طرق القيادة والخدمة والتعامل مع مختلف المراحل العمريّة. تمّ ذلك بالتعاون مع المرشد الروحيّ الأب جورج كلور والخوريّة سارّة دوغرامجي، اللّذين خضعا لدورة تدريبيّة في الكنيسة القبطيّة في مصر. اختتمت الدورة بمخيّم صيفيّ في دير الساليزيان في مشتّى الحلو، كتتويج وتطبيق عمليّ للمعلومات الّتي تمّ اكتسابها خلال السنة. كانت تلك الدورة بمثابة الحجر الأساس لفكرة إعداد الخدّام والقادة بشكل دوريّ.

6ـ تأسيس لجنة المتابعة:
وأيضاً، بجهود نيافة المطران يوحنّا إبراهيم راعي الأبرشيّة وبإدارة الملفونو رازق سرياني، تأسّست لجنة المتابعة عام 1988 بهدف ربط وتواصل مراكز التربية الدينيّة لكلّ أبرشيّات الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في سوريا، ممّا يتيح المجال للتعارف وتبادل الخبرات والتجارب. يجتمع مندوبون من كلّ مركز مرّة في السنة وبالتناوب في مدن مختلفة لمناقشة ووضع برنامج لنشاطات مشتركة، تجمع أبناء الكنيسة الواحدة في سوريا من محاضرات أو ندوات أو رحلات مشتركة.

وكانت أخويّة الإيتاس في مركز التربية الدينيّة لكنيستنا مار جرجس صاحبة الاقتراح والسباقة في إقامة مخيّم دينيّ صيفيّ مشترك، ضمّ خمسة أعضاء، ومسؤول من كلّ مركز. أقيم المخيّم في دير راهبات مار يوسف ودير الفرنسيسكان في صلنفة عام 1990، وشارك فيه مركز كنيسة مار أفرام (حلب)، ومركز كنيسة أمّ الزنّار (حمّص)، ومركز التربية الدينيّة حماة، وكذلك القامشلي، والحسكة، والقريتين، والمالكيّة، والقحطانيّة، وزيدل.
شارك في المخيّم أكثر من مئة شخص بحضور الأب جورج كلور، المرشد الروحيّ للأخويّة، وقد شاركنا نيافة المطران يوحنّا إبراهيم لمدّة يومين حيث أقام قدّاساً إلهيّاً، وألقى محاضرة قيّمة. وقد كان المخيّم ناجحاً بامتياز.
تمّت إعادة التجربة في العام التالي 1991، وأيضاً بتنظيم أخويّة الإيتاس في دير السريان الأرثوذكسيّ في كسب بمشاركة أوسع. وكنت رئيساً للأخويّة وقائداً للمخيّمين المشتركين. وتمّ أيضاً تنظيم مخيّم مشترك للمرحلة الإعداديّة بواسطة أخويّة الإيماس.

فكرة المخيّم الدينيّ الصيفيّ لأخويّات مركز التربية الدينيّة:

عام 1985 ومع انطلاقة المركز الجديدة كنت قد عيّنت مسؤولاً للنشاطات الدينيّة لأخويّة الايتاس برئاسة الملفونيثو المهندسة ماغي كللو -رحمها اللّه- والمرشد الروحيّ الأب جورج كلور، وقد أدرجت حينها بعض الأفكار والنشاطات الهامّة والمميّزة، والّتي أصبحت فيما بعد من أساسيّات نشاطات مركز التربية الدينيّة، وفيما يلي أهمّها:

أ: المخيّم الدينيّ الصيفيّ
في تلك السنة اقترحت على إدارة الأخويّة إقامة مخيّم دينيّ لأخويّة الايتاس كنشاط صيفيّ لمدّة أسبوع يقام داخل دير من الأديرة التابعة لكنائس شقيقة والمنتشرة في مناطق سياحيّة مختلفة في سوريا تتويجاً للقاءات ونشاطات السنة الدراسيّة، وقد وافقت الإدارة بالإجماع على الاقتراح وكذلك أيضاً وافقت إدارة مركز التربية الدينيّة الّذي كان رئيسها الملفونو نعيم حمامجي والملفونيثو فريدة بولص أمينة للسرّ.

وبحكم علاقاتي مع بعض الكنائس الشقيقة تمكّنت من تأمين دير راهبات مارّ يوسف ودير الفرنسيسكان المجاور للأوّل في منطقة صلنفة الجبليّة ولمدّة أسبوع واحد من شهر آب بالإضافة لتأمين كافّة المستلزمات من أسرّة إسفنجيّة للنوم، وكلّ حاجيّات المطبخ الّتي اُسْتُعِيرَت من أخويّة الشبيبة الطالبة المسيحيّة الّتي كنت عضواً في لجنة الرسالات فيها كون مركز التربية الدينيّة حديث العهد، ولا نمتلك كلّ المستلزمات.
بعد تحضير البرنامج اليوميّ للمخيّم (والّذي أصبح عرفاً في كافّة مخيّمات الأخويّات لاحقاً)، من الرياضة الصباحيّة، ثمّ صلاة الصباح والإفطار ثمّ طرح الموضوع الدينيّ على شكل حلقات نقاش والمحضّرة مسبقاً من قبل الأعضاء والمرشد الروحيّ يليها الغداء وتعليم التراتيل السريانيّة والجولة المسائيّة والعشاء وسهرة المساء الّتي تتضمّن العديد من التمثيليّات والألعاب الجماعيّة وختام اليوم بصلاة الشكر. وتحديد أسماء المشاركين تفاجئنا باعتذار رئيسة الأخويّة عن المشاركة في المخيّم لأسباب ليست من الأهمّيّة لذكرها، وأعقب ذلك اعتذار المرشد الروحيّ وإلغاء فكرة المخيّم من إدارة مركز التربية الدينيّة؛ بسبب عدم مشاركة رئيسة الأخويّة.

لقد كانت تلك التجربة الأولى، ولكنّها لم تكتمل. لم أستسلم في العام التالي ومنذ بدايته طرحت الفكرة مجدّداً، وهذه المرّة أُدرجت أخويّة مار رابولا في البرنامج، وقد وافقت إدارة المركز على الفكرة، وكون المركز لا يمتلك مستلزمات المخيّم الصيفيّ تمّت الموافقة على حجز أسبوعين متتاليين من شهر آب في إكليريكية مار أفرام في دمشق باب توما. حينها كان رئيس الدير المطران يوسف جاتين، وقد كانت التجربة العمليّة الأولى تلتها في السنة التالية أي عام 1987 التجربة الحقيقيّة والكاملة للنشاط الروحيّ الصيفيّ (المخيّم الصيفيّ) والّذي ضمّ كافّة أخويّات مركز التربية الدينيّة من الأحديّة والايماس والايتاس وأخيراً أخويّة مار رابولا وقد كان المخيّم في دير اللاتين في قنية التابعة لجسر الشغور، وفي هذه السنة استطعنا شراء الأسرّة الإسفنجيّة عدد 52 وكافّة مستلزمات المطبخ، وقد كانت التجربة ناجحة بامتياز حتّى أصبح اللقاء الروحيّ الصيفيّ من أهمّ نشاطات أخويّات مركز التربية الدينيّة.
وقد أدرك راعي الأبرشيّة حينها المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم أهمّيّة هذا اللقاء، فسعى جاهداً لتأمين دير خاصّ بكنيسة السريان الأرثودوكس في حلب، وقد كان دير السريان في كسب أحد أهمّ إنجازاته.

ب: الرياضة الروحيّة:
في كلّ عام وضمن البرنامج الفصليّ لأخويّة الايتاس، كان لنا لقاء روحي مميّز لمدّة يوم واحد تعيشه الأخويّة في دير من الأديرة الموجودة في مدينة حلب كدير الفرنسيسكان أو دير الكرمليت، يتضمّن اللقاء صلاة الصباح ثمّ الإفطار يليه طرح موضوع دينيّ اجتماعيّ يناقش واقع الشباب وبمشاركة المرشد الروحيّ، وبعد الغداء ممارسة بعض الألعاب الجماعيّة وتعليم التراتيل والختام بصلاة الشكر، وقد أصبح أيضاً فيما بعد من النشاطات الهامّة في أخويّات المركز كرياضة روحيّة ليوم واحد.

ج: رتبة الصلاة:
قبيل عيد ميلاد الربّ يسوع المسيح وأسبوع آلام وقيامة ربّ المجد، كان لنا لقاء روحي عُرف باسم رتبة الصلاة حيث تقام في الكنيسة أو كنيسة المعموديّة بتحضير مجموعة من الشبيبة وبالتعاون مع المرشد الروحيّ بهدف التأمّل والصلوات الجماعيّة والفرديّة والتقرّب من اللّه وطلب المغفرة والمسامحة والتوبة والشكر، بالإضافة للعديد من التراتيل الفرديّة والجماعيّة في جوّ من الخشوع والتأمّل. كانت فرصة رائعة للقاء بالربّ. وقد أصبح اللقاء أيضاً من أساسيات النشاطات الروحيّة لأخويّات المركز.

– بالإضافة إلى الكثير من المحاضرات والندوات القيّمة، الّتي شارك فيها العديد من الشخصيّات المعروفة من رجال الدين والكتّاب والمؤرّخين، من بينهم المطران يوحنّا إبراهيم، المطران أنطوان أودو، المطران بطرس مراياتي، الأب إلياس خليفة رئيس جامعة الكسليك في ذلك الوقت، الأب عبدو بدوي أستاذ الأيقونات في جامعة الكسليك، الأستاذ فادي بارودي الباحث في اكتشافات وادي قاديشا، والكاتب وليد اخلاصي.

 

هل حقّق مركز التربية الدينيّة كافّة أهدافه؟

أ: ما كان يفتقد مركز التربية الدينيّة هو عدم وجود منهاج دينيّ تربويّ كنسيّ موحّد خاصّ بالكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، يعتمد عليه الخادم في تعليم الدروس الدينيّة للمراحل الأولى من التعليم الابتدائيّ والإعداديّ والثانويّ.
فالتعليم كان جهداً فرديّاً مرتبطاً بالخادم وفكره وتراكمات خبراته، وما خضع له من دروس وتجارب سابقة. هذا المنهاج يتغيّر مع تغيّر إدارة كلّ فئة، وبالتالي، العمل لا يخضع لسلسلة منهجيّة متتابعة تبدأ ببداية واضحة، وتتدرّج وتتصاعد لتصل إلى نهاية معلومة ومرجوّة.
وقد كانت لنا العديد من المحاولات خلال فترة خدمتي في مركز التربية الدينيّة للوصول إلى منهاج خاصّ بمركزنا، بالاستفادة من خبرات الكنائس الشقيقة، وأولئك الّذين سبقونا في هذه الخدمة، سواء كانوا من الكنيسة الأرثوذكسيّة أو الكنيسة القبطيّة أو الكاثوليكيّة.
ولكن هكذا عمل كان أكبر من حجمنا نحن القائمون عليه، فهو يحتاج إلى اختصاصيّين في اللاهوت والعقيدة، واختصاصيّين اجتماعيّين تربويّين ونفسيّين. يعني أنّ العمل يجب أن يكون على مستوى المجمع المقدّس وبقرار من قداسة البطريرك بتعيين لجنة خاصّة تضمّ المؤهّلين لوضع مثل هذا المنهاج الّذي يوحّد التعليم، ويحقّق أهداف مركز التربية الدينيّة.

ب: ما كان يعوز مركز التربية الدينيّة أيضاً هو عدم وجود دورات سنويّة خاصّة ومستمرّة لإعداد خدّام للكنيسة تؤهّل وترفد الخدّام المؤهّلين للخدمة في مركز التربية الدينيّة أو مختلف لجان الكنيسة كعلمانيّين مؤهّلين لهذه الخدمة.

ج: عدم ارتباط الخادم برابط روحيّ بالكنيسة. بمعنى آخر، كانت الخدمة قراراً اختياريّاً وتعييناً بناء على المعرفة والسمعة، وليس بناء على القدرة والمؤهّلات المطلوبة. وهنا كانت لي العديد من المحاولات لإضفاء طابع روحيّ كنسيّ على الخادم، خاصّة بالنسبة للّذين يخضعون لدورات إعداد الخدّام، بربط الخادم والخدمة بطقس كنسيّ يقدم خلاله قسماً بالالتزام بالخدمة الكنسيّة كعلمانيّ مدنيّ، أيّ إطفاء بعد روحي كهنوتيّ لخدمة العلمانيّ في الكنيسة. بعبارة أخرى، حاولت تأسيس فكرة المكرّسين للخدمة جنباً إلى جنب مع المرشد الروحيّ، أي إنشاء مفهوم “اللاهوت المدنيّ العلمانيّ”، إذا صحّ التعبير.

د: ما كان يفتقد مركز التربية الدينيّة أيضاً نقطة رابعة وهامّة، وأعتقد بأنّها جوهر أهداف مركز التربية الدينيّة، والّتي بأسف شديد أقول إنّنا فشلنا في تحقيقها على مدار العشرين سنة من تأسيس المركز، وهي “الدعوة الكهنوتيّة”، أي فرز بعض الشباب الّذين شعروا بدعوة الروح القدس للانضمام للسلك الكهنوتيّ كآباء كهنة. وكم نحن بحاجة ماسّة إليهم في الوقت الحاضر.

 

ثانياً: العلمانيّ في الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة

بداية تاريخيّة:
عند قراءتنا سفر أعمال الرسل، يمكننا أن نتوقّف عند تسلسل زمنيّ تاريخيّ ثابت لنشأة الكنيسة الأولى وحياة المسيحيّين الأوائل، ونموّها وتوسّعها وانتشارها. وما يلفت الانتباه هو استخدام صيغة الجمع في سرد الأحداث (كانوا، رجعوا، أقاموا، كسروا…)، ونجد أنّ الأفراد ذكروا فقط ضمن سياق المجموعة. وإذا قرأنا الكتاب المقدّس بأكمله، فلن نجد كلمة كاهن أو علمانيّ بالمفهوم المسيحيّ.
في بدايات الكنيسة، لا نجد تمييزاً بين صفّ الإكليروس وصف العلمانيّين، بل نجد الإشارة المتكرّرة إلى مصطلح “الجماعة”.
سواء كانوا التلاميذ الاثني عشر في الحلقة الضيّقة جدّاً، مع متياس الّذي تمّ اختياره بالتصويت بدلاً من يهوذا الإسخريوطيّ (أعمال الرسل 1/26)، أو في الحلقة الأكبر مع زيادة عدد المؤمنين. إنّ سفر أعمال الرسل يذكر أنّ الجماعة الأولى الّتي كانت تحيط بالرسل كانت تتألّف من حوالي مئة وعشرين شخصاً، بما في ذلك بعض النسوة ومريم أمّ يسوع وإخوته (أعمال الرسل 1/14-15).
وعندما كانوا جميعاً مجتمعين في مكان واحد، نزل عليهم الروح القدس وبدأوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم (أعمال الرسل 2/1-4).
وبعد عظّة بطرس الرسول، توسّعت وكبرت الجماعة، وانضمّ إليها في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (أعمال الرسل 2: 41)، وذلك عن طريق التوبة وقبول المعموديّة ” تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (أعمال الرسل 2: 38). فهبة الروح القدس ينالها الجميع دون استثناء، وينضمّون إلى الجماعة من خلال التوبة والمعموديّة.
يعطي لنا الإنجيليّ لوقاً، كاتب أعمال الرسل، وصفاً دقيقاً لحياة الجماعة. حيث يقول: ” وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ. وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ، كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ، مُسَبِّحِينَ اللهَ، وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ. وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ.” (أعمال الرسل 2: 42-47).
لم تتميّز هذه الجماعة الأولى فقط بالمعموديّة والتوبة والإيمان بيسوع المسيح إلهاً مخلصاً والصلاة وكسر الخبز، بل أيضاً بالشركة المبنيّة على الوحدة والتقاسم والمساواة. يقول الكتاب المقدّس: “وكان لجمهور الّذين آمنوا قلباً واحداً ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إنّ شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كلّ شيء مشتركاً.” (أعمال الرسل 32:4).

وقد تعدّدت تسميات الجماعة من المؤمنين في سفر أعمال الرسل.
أ ـ التسمية “الأخوّة”:
وفي تلك الأيّام قام بطرس بين الأخوّة، وكان هناك جمع محتشد من الناس يبلغ عددهم نحو مئة وعشرين (أعمال الرسل 1:15).
فلمّا سمعوا ذلك الكلام، تفطّرت قلوبهم، فقالوا لبطرس وسائر الرسل: “ماذا نفعل أيّها الأخوّة” (أعمال الرسل 2:37). وكذلك في أعمال الرسل 11:1، 12:17، و21:17-18.
ب ـ التسمية “التلاميذ”:
وهم ليسوا فقط الاثني عشر أو الاثنين والسبعين، بل جميع المؤمنين المعمدين الّذين انضمّوا إلى الجماعة. “فلمّا وصل إلى أورشليم، حاول أن ينضمّ إلى التلاميذ، وكانوا جميعاً يخافونه وغير مصدّقين أنّه تلميذ” (أعمال الرسل 9:26). وهذا يتكرّر أيضاً في أعمال الرسل 19:1، 11:29، و9:19.

جـ التسمية “المسيحيون”:
وقد أطلقت لأوّل مرّة على المؤمنين في أنطاكية. وفي أنطاكية، حيث كان هناك عدد كبير من المؤمنين، سُمّي التلاميذ لأوّل مرّة “مسيحيّين” (أعمال الرسل 11:26).

دـ التسمية “الكنيسة”:
تمّ استخدام اسم “الكنيسة” لأوّل مرّة للإشارة إلى المؤمنين. وكانت هذه التسمية تطلق لأوّل مرّة على جماعة المؤمنين خارج فلسطين، والّتي كانت تتكوّن من المختونين وغير المختونين. ويشير الكتاب المقدّس إلى الخوف الشديد الّذي ألمّ بالكنيسة بأكملها وبجميع الّذين سمعوا عن ذلك (أعمال الرسل 5:11). وأيضاً يذكر الكتاب المقدّس أنّ الأخبار وصلت إلى آذان الكنيسة في أورشليم (أعمال الرسل 11:22)، وكذلك في (أعمال الرسل 12:1+5).

كلّ هذه المسمّيات أُطلقت على المؤمنين بالمسيح الّذين كانوا جماعة واحدة، لا توجد أيّة مراتب بينهم ولا تمييز، فالكلّ يجمعهم الإيمان بالربّ يسوع الإله المخلص، وكذلك المعموديّة.
وفي إطار الجماعة، يبرز مجموعة من الأشخاص الّذين يقومون بمهامّ وأعمال خاصّة، وقد نالوا هذه المهامّ بإلهام من الروح القدس، وذلك وفقاً لمواهبهم، وكلّ هذا من أجل نشر بشارة الخلاص وبناء الكنيسة، وثباتها ونموّها واستقرارها. ومن هؤلاء:
مجموعة الرسل الاثني عشر كانت في المقدّمة، وعلى رأسهم بطرس الرسول. كما كان هناك تلاميذ آخرون للربّ، ويذكر في الإنجيل أنّ عددهم كان اثنان وسبعين (لو 10/1).
وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك مجموعة لبولس والمرسلين، ومجموعة المعلّمين الّذين كانت مهمّتهم التعليم، مثل أبلس (أع 18/24)، وأقيلا وبريسكلا (أع 18/26).
وكانت هناك أيضاً مجموعة الشيوخ الّذين كانت مهمّتهم الإدارة والسهر والمراقبة والتوجيه والتدبير (أع 21/18).
ونجد ضمن المجموعات حضوراً ودوراً مهمّاً للنساء، مثل برسكلاً وليديا ومجموعة الأرامل، وكذلك مريم والنسوة اللّاتي كُنّ مع الرسل حين حلول الروح القدس.
أعود وأذكر أنّ في الكنيسة الأولى لا نجد سلطة هرميّة بين الخدّام (رئيس ومرؤوس، راع ورعيّة)، ولا وجود للدرجات الكهنوتيّة مثل الأساقفة والكهنة والرهبان والمؤمنين، بل كانوا جماعة واحدة متشاركة.

 

وقد توزّعت مهامّ الجماعة في خدمات متعدّدة:

– خدمة الكلمة: “وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ اللهِ بِمُجَاهَرَةٍ.” (أعمال الرسل 31:4).
– نشر بشارة يسوع المسيح ابن الله الحي المخلص: “وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ.” (أعمال الرسل 20:3-22).
– الشهادة لقيامة المسيح: “فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ.” (أعمال الرسل 32:2).
– الدعوة إلى التوبة وقبول المعموديّة لمغفرة الخطايا: فقال بطرس لهم: “تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (أعمال الرسل 38:2).
ولم تكن الخدمات محصورة بالجانب الروحيّ فحسب، بل أيضاً شملت التعاون والتضامن المادّيّ، كما فعلت كنيسة أنطاكية في مساعدة كنيسة أورشليم. فقد قرّر التلاميذ أن يرسلوا مساهماتهم وتبرّعاتهم للإخوة الّذين يعيشون في اليهوديّة، وفعلاً فعلوا ذلك بإرسال مساعداتهم بأيدي برناباً وشاول (أعمال الرسل 29:11-30).
وكانت الرعاية والاهتمام بالمحتاجين والأرامل من أولويّات الجماعة، فلم يكن هناك محتاج؛ لأنّ كلّ من يملك الحقول أو البيوت كان يبيعها ويأتي بثمن المبيع، فيلقيه عند أقدام الرسل، حيث يتمّ توزيعه على الجميع وفقاً لاحتياجاتهم (أعمال الرسل 34:4-35). هنا نلمس بدايات التنظيم والعمل الخدميّ المؤسّساتيّ في المجتمع المسيحيّ المبكّر.

لم يحدّد كاتب سفر أعمال الرسل، لوقاً، الفئة الّتي تؤدّي هذه المهامّ، بل كان جميع المؤمنين مدعوّين للخدمة بناء على معموديّتهم ونيلهم الروح القدس. في بدايات الكنيسة، لم يكن هناك أيّ إشارة إلى أنّ منح العماد مقتصرة على الرسل أو أيّ خدّام آخرين، ولم يتمّ ذكر أيّ أشخاص محدّدين فيما يتعلّق بكسر الخبز (وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات) كما هو مذكور في أعمال الرسل 42:2.
أمّا رتبة وضع الأيدي، فلم تكن لها المعنى التكريسيّ في الكنيسة الأولى. فوضع الأيدي كانت إشارة إلى نزول وحلول موهبة الروح القدس، وكانت تمنح لجميع المؤمنين، كما فعل بولس الرسول عندما وضع يديه على أهل أفسس بعد معموديّتهم كما هو مذكور في أعمال الرسل 19:6.
نستخلص ممّا سبق أنّ جماعة المؤمنين كانوا جميعاً مشتركين في الخدمات والمهامّ. حيث حصل الجميع على مواهب الروح القدس، وكانت الرسالة والخدمة متاحة للجميع، وكلّ شخص يخدم وفقاً لموهبته الخاصّة.

 

لكن من أين جاءت درجة الكهنوت وصف العلمانيين؟

في سفر أعمال الرسل، لا نجد أيّ إشارة لاستخدام مصطلح “كاهن” لوصف خدّام الكنيسة. في الواقع، كلمة “كاهن” تشير في السياق اليهوديّ إلى الشخص الّذي يخدم في الهيكل اليهوديّ، أو إلى الكاهن الأعلى.
على سبيل المثال، عندما كان بطرس، ويوحنّا يخاطبان الجماهير، جاء الكهنة وقائد حرس الهيكل لمواجهتهم، كما هو مذكور في أعمال الرسل 4:1 و 4:6.
كما ذكر مصطلح “كاهن” أيضاً للإشارة إلى الكهنة الوثنيّين، كما حدث عندما جاء كاهن صنم زاويش إلى مدخل المدينة بالثيران والأكاليل، كما هو مذكور في أعمال الرسل 4:1.
في القرون الأولى ومع انتشار وتوسّع المسيحيّة في مختلف أنحاء العالم، وبعد وفاة الرسل واستشهادهم، بدأت تظهر درجات كهنوتيّة ’فئة من الخدّام المختصّين والمفرغين للأعمال الكنسيّة والروحيّة وخدمة المذبح ( الاكليروس ). وفئة وهي الأكثريّة “المؤمنون” أو “العلمانيّون” لانشغالهم وتفرّغهم لأمور الدنيا والحياة.
مع مرور العصور، كبر وتضخّم دور الكهنة في الكنيسة لدرجة القداسة وازدادت أهمّيّتهم، وتعدّدت التراتبيّة الكهنوتيّة من الأساقفة والكهنة والخوريّين. أصبح الإكليروس يمثّل هيكل الكنيسة، وزاد نفوذهم وسلطتهم. وفي المقابل، انخفضت مكانة العلمانيّين لتصبح في المرتبة الثانية، حيث أصبحوا رعيّة تحت سلطة الكهنة (فالإكليروس يأمر والعلمانيّ يطيع). الراعي والرعيّة ’ للكهنة المبادرة والمسؤوليّة كقادة وللعلمانيّين الطاعة والخضوع والامتثال بالإضافة للمساهمة المادّيّة من خلال التبرّعات.

تعريف العلمانيّ:

العلمانيّ الّذي أقصده في هذا المقال هو الشخص المرتبط بالعالم والمجتمع أو عامّة الناس أي كلّ مؤمن باللّه والكنيسة، ولكنّه ليس رجل دين أي غير اكليريكيّ فالعلمانيّون هم أبناء الكنيسة المؤمنين.
وبتحديد أكثر العلمانيّ هو كلّ الفئة المؤمنة، والّتي تخدم في حقل الكنيسة خارج إطار الإكليروس. بالعبارة الإنجيليّة، يمكن اعتبار العلمانيّين المؤمنين أعضاء في جسد السيّد المسيح المتنوّع (1 كورنثوس 12:12-27).
لا شكّ أنّ العلمانيّين يشكّلون الأغلبيّة الهامّة في جسد الكنيسة، بل يمكن القول بأنّه لا أهمّيّة لوجود وكينونة الكنيسة كمؤسّسة بدون العلمانيّين، فهم الركن الأساسيّ والهامّ داخل المؤسّسة الكنسيّة، ولا يمكن تصوّر الكنيسة بدون وجود المؤمنين العلمانيّين، سواء كانوا نساء أو رجالاً أو أطفالاً بهم ومع رجال الدين الاكليروس يكتمل بنيان الكنيسة وجسد السيّد المسيح الّذي هو رأسها ومحورها (1 بطرس 2:9).

دور العلمانيّ:

دور العلمانيّ الأساسيّ هو المشاركة في تطوير آليّة عمل منظومة المؤسّسة الكنسيّة على جميع المستويات الخدميّة والماليّة والتعليميّة والتربويّة والخيريّة والصحّيّة. وهذا يتطلّب الاستقلال في الفكر، وفي اتّخاذ القرارات، دون التعرّض للثوابت الإيمانيّة والعقائديّة والطقوسيّة الّتي تتعلّق بدور رجال الدين.
فعلى العلمانيّ أن يدرك وجود القيادة الروحيّة الأولى في الكنيسة وأن يلتزم بالاحترام والثقة والحبّ تجاهها. وفي نفس الوقت، على القيادة الدينيّة أن تدرك أنّ القيادة لا تعني التسلّط والتفرّد واحتكار القرارات، بل ينبغي أن يشارك بالرأي والمساهمة في اتّخاذ القرارات.
وبما أنّ العلمانيّين يشكّلون الأغلبيّة في جسم الكنيسة، فإنّهم بالتأكيد يجب أن يلعبوا أدواراً فعّالة وواسعة في المؤسّسة الكنسيّة، وفي عمليّة اتّخاذ القرارات، سواء في مجال الأعمال الخيريّة أو إدارة شؤون عائلات كنيسة مار جرجس، وبما يتعلّق بالخدمات الطبّيّة، وكذلك في مجال التعليم والتربية، وإدارة شؤون الأوقاف والممتلكات الخاصّة بالكنيسة، وفي حقل التعليم الدينيّ وإدارة الشؤون الماليّة.
والسؤال هو: هل استطاع العلمانيّ أن يؤدي دوره الفعّال والحقيقيّ في الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة؟ هل نجحت الكنيسة في استغلال واستخدام قدرات العلمانيّين بمختلف فئاتهم ومواهبهم وخبراتهم؟

 

واقع العلمانيّ في كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حيّ السريان

خلال خدمتي في الكنيسة، الّتي استمرّت لأكثر من عشرين عاماً، تنقّلت بين مختلف مؤسّسات الكنيسة، وخاصّة مركز التربية الدينيّة، ومن خلال لقاءات عديدة ومتكرّرة مع رجال الدين وبعض المسؤولين في مختلف اللجان والمؤسّسات، بما في ذلك المجالس الكنسيّة واللجان الخيريّة ووكلاء الكنيسة، أستطيع أن أقول إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة السريانيّة لم تولّ أهمّيّة كافية للعلمانيّ ودوره في الكنيسة كشريك. فنظرة الإكليروس للعلمانيّ كانت مليئة بعدم الثقة، ممّا أدّى إلى عدم منحه الدور الحقيقيّ والكامل في الكنيسة. فالكنيسة وقيادتها الروحيّة لم تحدّد ببيان رسميّ تعريف العلمانيّ ودوره في الكنيسة. القيادة الكنسيّة الممثّلة بقداسة البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني والمجمّع المقدّس.
لقد اقتصر دور العلمانيّ في كنيستنا على المشاركة في المجالس الملّيّة، حيث كان يشغل منصباً إداريّاً فيها برئاسة راعي الأبرشيّة. وكان راعي الأبرشيّة هو من يعيّن جميع أعضاء إدارة المجلس. (تشكيل المجلس كان يتمّ عن طريق الانتخاب، ولكنّ هذا النظام تمّ إلغاؤه في ثمانينات القرن الماضي). وقد يتشاور راعي الأبرشيّة مع بعض الشخصيّات الفاعلة في الكنيسة الّذين يتمتّعون بالخبرة والمعرفة بالأشخاص.
بالإضافة إلى ذلك، يمثّل العلمانيّ دوراً في اللجان الخيريّة ووكلاء الكنيسة، وأيضاً في الحركة الكشفيّة ومركز التربية الدينيّة. كما يشارك في إدارة مجالات الصحّة والمدارس ودور المسنّين، بالإضافة إلى لجنة الأوقاف. تتمّ تعيين جميع هذه الإدارات من قبل راعي الأبرشيّة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

من الواضح من المقدّمة السابقة أنّ العلمانيّ يتولّى أغلبيّة الخدمات الكنسيّة والإداريّة والاجتماعيّة والماليّة والتربويّة والتعليميّة والترفيهيّة والخدميّة. ومن البديهيّ والمسلّم به أنّ الدور الّذي يقوم به العلمانيّ لا يمكن للكهنة القيام به، وبالمثل، الدور الّذي يقوم به رجل الدين لا يمكن للعلمانيّ القيام به. إنّ الأدوار متنوّعة والمهامّ مختلفة كالأعضاء المختلفة في الجسد الواحد.
منذ تأسيس المجالس المليّة واللجان العاملة، لم تكن العلاقة بين العلمانيّ ورجل الدين علاقة تكامليّة أو علاقة تعاون وشراكة، بل كانت علاقة تنافسيّة تهدف إلى السيطرة والسيادة من جانب أحد الأطراف على الأخرى. وغالباً ما انتهت هذه العلاقة لصالح رجل الدين، كونه الرئيس الوحيد والثابت، وإقالة أعضاء اللجنة العاملة وتعيين لجنة جديدة أكثر ولاء وطاعة أكبر هي النتيجة. تاريخ كنيستنا في حيّ السريان يشهد على العديد من الأمثلة والشواهد على ذلك.
باعتقادي، المشكلة تكمن في نظرة رجال الدين للعلمانيّين الخادم المجّانيّ الغير متفرّغ، وبوصفهم مدنيّين غير دينيّين أو خارج نطاق الكهنوت داخل المؤسّسة الكنسيّة. وكأنّ العلمانيّ تجاوز حدود الكهنوت كونه غير متفرّغ وغير مؤهّل دينيّاً ولاهوتياً، وهو ليس أصلاً ثابتاً ودائماً في الخدمة، بل مرحلة مؤقّتة تنتهي عند انتهاء الفترة المحدّدة، بمعنى أنّ موقع العلمانيّ قابل للتغيير، بينما يظلّ الكهنوت ثابتاً وراسخاً.
وكي لا يكون ما ذكرته مجرّد افتراض، سأستعرض بعض الأمثلة والأحداث الّتي كادت أن تكون مفصليّة في تاريخ كنيسة مار جرجس في حيّ السريان بأبرشيّة حلب. يجب التنويه أنّ القرارات الّتي اتّخذت في تلك الفترة قد تكون صحيحة وصائبة وملائمة للواقع والظروف الّتي تمّ اتّخاذ القرارات فيها.

 

المثال الأوّل:

تمّ ذكر هذا المثال في بداية المقال عندما تمّ تجميد نشاطات مركز التربية الدينيّة وحلّ كافّة إدارات الأخويّات. يعود السبب وراء هذا القرار إلى انحراف مسار بعض الأخويّات عن الهدف الأساسيّ للمركز. أعتقد أنّ الهدف الرئيسيّ من هذا القرار كان استهداف إدارة أخويّة مار يعقوب الرهاوي الّتي كانت تتميّز بنشاطها الثقافيّ والاجتماعيّ اللافت. شكّلت هذه الإدارة مجموعة منظّمة ملتزمة جمعت حولها جميع أطياف الكنيسة، وأصبحت قوّة فكريّة وإداريّة تتجاوز نفوذ اللجان العليا. تمّ اتّخاذ هذا القرار في عام 1984، وهو الإقصاء الأوّل للعلمانيّ وتحجيم دوره، حيث وضعت خطوط محدّدة لا يحقّ له تجاوزها.

المثال الثاني: إغلاق صالة الأوندالغ

تقع صالة الأوندالغ في الطابق الأوّل من مبنى المطرانيّة، الّذي يوجد على يمين الكنيسة. كانت الصالة تفتح كلّ يوم أحد بعد القدّاس الإلهيّ لاجتماع بعض أعضاء المجلس المليّ واللجان الخيريّة وأحد كهنة الكنيسة، بالإضافة إلى حضور المؤمنين المهتمّين بشؤون الكنيسة والطائفة. كانت الصالة مفتوحة دائماً للجميع وبإدارة شخص علمانيّ.
وكانت الصالة تستخدم كمنصّة لمناقشة جميع أنشطة وقرارات ومشاريع وأعمال اللجان العاملة في الكنيسة، مثل المجلس المليّ ومشاريعه، واللجنة الخيريّة، ومركز التربية الدينيّة، وأداء رجال الدين، وعظة القدّاس الإلهيّ، إلخ. وباختصار، كانت تعرض هموم واقتراحات الطائفة بكلّ حرّيّة وشفافيّة، سواء كانت مدحاً أو نقداً. كانت الصالة تعتبر منصّة ديمقراطيّة حضاريّة ومكاناً للتواصل والتفاعل بين اللجان العاملة وأبناء الكنيسة.
ولكن وبسبب الانتقادات الّتي استهدفت بعض الشخصيّات الفاعلة في الكنيسة، الّذين هم في موقع المسؤوليّة، تمّ إغلاق الصالة لفترة طويلة. ثمّ تمّ إعادة فتحها بمسمّى جديد (صالة الملكة تيودورة)، وبشكل ووجه جديدين يتمّ فيها تقديم وطرح مواضيع عامّة تراثيّة سريانيّة، دون التطرّق إلى المواضيع الّتي تتعلّق بالكنيسة ولجانها ورجال الدين.
مرّة أخرى، نرى تقييداً وتحجيماً لدور العلمانيّ في كنيستنا.

المثال الثالث:

في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما كان المرحوم الملفونو سليم قولتقجي نائباً لرئيس المجلس المليّ، اتّخذ قرار من الإدارة بشراء جميع العقارات المحيطة بالمقرّ الصيفيّ لمركز التربية الدينيّة (مقرّ نادي الجلاء السابق) من الجهة الجنوبيّة والجهة الغربيّة، وذلك بجهود كبيرة من نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنّا إبراهيم ونائب الرئيس. وكان الهدف من هذا الشراء هو إقامة مجموعة من المرافق، بما في ذلك مساكن للشباب وصالات ومكتبة وناد صيفيّ وآخر شتويّ، أيّ مشروع طموح وضخم. وحتّى يتسنّى إنجاز المشروع، قرّر المجلس المليّ توسيع المقرّ ببعض الأعمال الهندسيّة البسيطة وبأقلّ التكاليف، مثل فتح الغرف وترميمها وتوسيع المقرّ الصيفيّ للاستفادة منه خلال فترة الصيف.

وقد تمّ الاتّفاق على افتتاح المقرّ في يوم عيد القدّيس مار جرجس، شفيع الكنيسة، والّذي يأتي ضمن أسبوع كامل من النشاطات المتنوّعة، بالتعاون مع مركز التربية الدينيّة وكشّافة مار جرجس وفرقته الموسيقيّة الرائدة.
بعد تأجيل موعدين سابقين للافتتاح؛ بسبب غياب راعي الأبرشيّة لالتزاماته الكثيرة ومسؤوليّاته العديدة مع مجلس الكنائس العالميّ والبطريركيّة، قام المجلس المليّ باتّخاذ قرار بتثبيت موعد الافتتاح.
وفعلاً تمّ الافتتاح في صباح يوم الأحد، بعد القدّاس الاحتفاليّ بعيد القدّيس مار جرجس، بحضور عدد كبير من الأهالي والآباء الكهنة وجميع اللجان العاملة في الكنيسة، ومع العزف الموسيقيّ الجميل من الفرقة الكشفيّة، تمّ إحياء حفل افتتاح رائع مليء بالفرح والسعادة والفخر. ولكن بأسف كبير، كان راعي الأبرشيّة غائباً بسبب السفر.
بعد الافتتاح وأثناء الاجتماع التالي للمجلس المليّ، بحضور راعي الأبرشيّة ورئيس المجلس المليّ، كان الاجتماع مشحوناً بالتوتّر والصدّام، حيث قام الرئيس بتوبيخ جميع أعضاء إدارة المجلس المليّ؛ بسبب افتتاح المقرّ بغياب صاحب المقرّ. لا يحقّ لأحد عشر رجلاً من أعضاء المجلس المليّ، الّذين تمّ تعيينهم ومنح الثقة لهم، اتّخاذ قرار مماثل في غياب راعي الأبرشيّة، أي فعندما يكون راعي الأبرشيّة غائباً، يصبح المجلس المليّ عاجزاً مشلولاً. ولهذا السبب استقال العديد من الشخصيّات، وأيضاً لاحقاً رفضت هذه الشخصيّات وغيرها من تولّي المنصب في المجلس المليّ؛ بسبب تكرار غياب راعي الأبرشيّة.
هنا أرى بوضوح تحجيماً لدور العلمانيّ وتهميشه في صنع القرارات الحاسمة. فالعلمانيّ أمام خيّارين محدّدين طالما كان تشكيل المجلس المليّ بالتعيين، فإمّا أن ينضمّ إلى المجلس المليّ، ويتبع الأوامر ويصوّت بالإيجابيّة، أو يتمّ استبعاده وإقصاؤه. في حالة التعيين، يعتبر أصحاب الولاء والطاعة هم الأكثر تمثيلاً وبقاء في المجلس المليّ.

المثال الرابع:

بعد مرور حوالي عام واحد على تلك الصدامات، تحديداً في عام 1992-1993، حدث خلاف آخر بين الإكليروس أو الرئاسة والعلمانيين. وقع هذا الخلاف عندما طلب رئيس أخوية يسوع الطفل استخدام الحافلة المخصّصة لنقل طلاب مدرسة بني تغلب الثانية لنقل أطفال أخوية يسوع الطفل إلى المسبح كجزء من أنشطة المدرسة الصيفية في شهر آب. وفي تلك الفترة، رفض سائق الحافلة طلب رئيس الأخوية وفقًا لقرار المجلس الملي.
وبالاتصال بين رئيس المركز ونائب رئيس المجلس الملي، الراحل الملفونو سليم قولتقجي، تفاجأ الأخير بالقرار وعدم معرفته به في الأساس. وتبيّن لاحقًا أن القرار صدر مباشرة من راعي الأبرشية بعدم استخدام الحافلة خارج إطار المدرسة. رغم كل المحاولات التي بذلها المجلس الملي، إلا أنه فشل في تحريك الحافلة لخدمة أطفال كنيستنا، ولم يتمكن من إلزام سائق الحافلة بالاستجابة لقرار المجلس.
هذه الحادثة كانت بمثابة القشة الثقيلة والشرارة التي أشعلت لهيب الخصام بين الطرفين.
لن أدخل في تفاصيل الأحداث، ولكن حينها وقعت كنيستنا في صراع طويل ومؤلم استمرّ لأكثر من عام بين رجل الدين من جهة والعلمانيّين من جهة أخرى، ممثّلة في الراحل الملفونو سليم قولتقجي ومعه مجموعة من المناصرين. شكّلوا حركة ثوريّة تهدف إلى تحقيق إصلاحات حقيقيّة في الكنيسة، وأصدروا بياناً يطالبون فيه بــ:

1ـ تشكيل المجلس المليّ بواسطة انتخاب الأعضاء وليس بالتعيين.
2ـ عدم تدخّل رجل الدين في الشؤون الإداريّة والماليّة للمجلس المليّ، بل يقتصر دوره على الشؤون الدينيّة والكنسيّة فقط.
3ـ تعيين مسؤول قانونيّ مختصّ للشؤون الماليّة في الكنيسة.
في مضمون البيان، يتمّ التركيز على توفير ساحة واسعة للمسؤوليّة وتعزيز دور العلمانيّين في الكنيسة، بمشاركتهم في صنع القرارات وتنفيذها بشكل فعّال.
خلال فترة تجاوزت العام، تعرّضت كنيسة مار جرجس لحالة فراغ إداريّ وسكون طويل، حيث فشلت كلّ محاولات التصالح وإنهاء الأزمة بين الطرفين. وأخيراً، تمكّنت إدارة مركز التربية الدينيّة، بقيادة الملفونو جوزيف برداقجي، من تنظيم لقاء جمع الطرفين في صالة الأوندالغ. وقد كنت واحداً من اللاعبين الرئيسيّين في هذا اللقاء ومديراً له، بحضور العديد من الشخصيّات الّتي خدمت في لجان الكنيسة والآباء الكهنة الأفاضل. وفي نهاية اللقاء، استجاب نيافة المطران بالتوقيع على ورقة البيان، كإشارة لانتهاء الأزمة.
لاحقاً، تشكّلت إدارة المجلس المليّ بطريقة الانتخاب، وتغيّرت أغلب الإدارات في مختلف اللجان. لقد ألقت الأزمنة حينها بظلالها على الكنيسة حيث مرّت بفترة باردة من حيث النشاطات واللقاءات مع ابتعاد رجل الدين وراعي الأبرشيّة تماماً عن الحضور والتدخّل في الشؤون الإداريّة وللإنصاف لم تكن التجربة ناجحة حين كانت الإدارة علمانيّة بالمطلق لا بل يمكن أن أقول بأنّها كانت فاشلة ولأسباب عديدة:
1ـ الظروف والأجواء لم تكن مواتية في صفّ العلمانيّين. فبعضهم كان مع الحركة بنسبة مقبولة، وبعضهم الآخر كان مع الفكرة، ولكن ضدّ الطريقة، وآخرون كانوا ضدّ الفكرة تماماً.
2ـ نقص التمويل الماليّ كان أحد العوامل الرئيسيّة، حيث اقتصرت الإيرادات على تبرّعات المؤمنين، ولم تكن كافية لتغطية جميع احتياجات ونشاطات الكنيسة ولجانها.
3ـ الفئة الإصلاحيّة ذاتها لم تكن من النخبة والتكنوقراط، حيث جمعتها المصالح الشخصيّة والعواطف والغضب والشهرة، في حين غاب عنهم التوافق في الفكر والإيمان والحكمة. وهذا أدّى فيما بعد إلى انقلاب المجموعة على بعضها عندما اصطدمت المصالح، وانتهت التجربة باستقالة رئيس المجلس المليّ المنتخب والدخول من جديد في فراغ إداريّ حتّى تشكيل إدارة جديدة للمجلس المليّ بتعيين من قبل راعي الأبرشيّة. وأوّل قرار اتّخذته الإدارة الجديدة بالإجماع هو تمزيق ورقة البيان الموقّعة من قبل نيافة المطران.
وعادت الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، ولكن مع وجود جرح كبير في جسد الكنيسة بين الاكليروس والعلمانيّين، وظلّ ينزف لسنوات طويلة. ومرّة أخرى يعود العلمانيّ للمشاركة في عمليّة الموافقة والتصويت وتنفيذ القرارات.
لا شك في أن التجربة كانت رائدة من حيث المبدأ، ولكنّها فشلت في طريقة التنفيذ والتطبيق بسبب الظروف الّتي سادت فيها الصدام والنزاع والصراع والانتقام والغضب والحقد، ما أدّى إلى عدم التركيز على اللقاء والحوار والحبّ.

 

الإصلاح في الكنيسة

لماذا الإصلاح ضرورة ملحّة؟

إنّ التغيّرات الّتي طرأت على الكنيسة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة بطرفيها الإكليروس والعلمانيّين تجعل الإصلاح والتطوير ضرورة ملحّة.
فعلى صعيد الاكليروس أصبح من النادر أن نجد اليوم في كنيستنا السريانيّة الأرثوذكسيّة رجل دين لا يحمل شهادة جامعيّة، بل حتّى شهادات عليا في مختلف المجالات مثل اللاهوت والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والقانون من جامعات عالميّة. بالأخصّ، القادة الدينيّون والكهنة والرهبان في الوقت الحاضر هم شباب يتمتّعون بفكر منفتح ومعاصر وحاصلين على شهادات جامعيّة.
وعلى صعيد العلمانيّين: يشهد العلمانيّون تحوّلاً مشابهاً، حيث أصبحت الأغلبيّة منهم رجالاً ونساء يحملون شهادات جامعيّة، أو يتمتّعون بمستوى عال من المعرفة والثقافة والمسؤوليّة. زاد أيضاً الانتماء القويّ للكنيسة، خاصّة بعد الأزمة الّتي تعرّضت لها البلاد.
ومن الضروريّ اليوم أن يرتقي دور العلمانيّين من مجرّد رعيّة إلى شركاء في المؤسّسة الكنسيّة، وخاصّة في ظلّ التحدّيات الجديدة الّتي ظهرت في السنوات الأخيرة وتداعيات هجرة الآلاف من الأسر إلى بلاد المهجر أو الشتات. فهذا يزيد من الهموم والمسؤوليّات الّتي تواجه الكنيسة.

 

بعض الاقتراحات:

1ـ تغيير وتطوير صورة رجل الدين من كاهن أو خوريّ الّذي يقيم القدّاس الإلهيّ، ويؤدّي الخدمات الروحيّة (مثل الزواجات والعمادات) فقط، إلى أن يكون الكهنوت متخصّصاً بمواهب متعدّدة، مثل كهنوت العائلة، وكهنوت الشبيبة، وكهنوت التعليم الدينيّ، وكهنوت الخدمات الاجتماعيّة، وغيرها.
2ـ اقتراح إقامة دورات لاهوت متطوّرة بهدف تنشئة المؤمنين على نحو مسيحيّ سليم، استناداً إلى الكتّاب المقدّس، وتثقيفهم في المجال اللاهوتيّ والعقائديّ والتاريخيّ. هذا يهدف إلى تمكينهم من المشاركة في حياة الكنيسة وأداء دورهم الكهنوتيّ في خدمة اللّه ونشر ملكوته في العائلة والعمل، من خلال حوار الحياة. ومع التطوّر التكنولوجيّ الحديث، أصبحت الوسائل المتاحة اليوم، مثل الوسائط الرقميّة والتعليم عن بعد؛ وبالتّالي نجد الطبيب اللاهوتيّ أو المهندس اللاهوتيّ والمعلّم اللاهوتيّ.
3ـ اقتراح مشاركة العلمانيّ بفاعليّة في المجمع المقدّس، وأن يكون شريكاً في اتّخاذ القرارات.
4ـ اقتراح إقامة مؤتمر سنويّ يجمع نخبة من رجال الدين المتنوّرين والعلمانيّين لمناقشة شؤون الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، وخاصّة بعد التطوّرات والتحدّيات الّتي تواجهها الكنيسة في الداخل والخارج.
وعلينا نحن المغتربون أن نتحرّك في هذا المجال دون انتظار مكرّمة من الإكليروس ونتجاوز النشاطات الترفيهيّة واللقاءات التقليديّة إلى لقاءات نخبويّة تناقش مسائل تهمّ الوجود السريانيّ الأرثوذكسيّ في المهجر، وهذا يتطلّب تجاوز العقليّة القبليّة والانتماءات والتعصّب القبليّ الّذي مزّقنا، ولا زال علينا أن نشعر بأنّنا جميعنا سريان أرثودوكس فلا فرق بين سرياني أورفلي أو سيفركلي وماردنلي وطورانيّ أو سريانيّ تركيّ أو سريانيّ عراقيّ أو سريانيّ سوريّ ولا فرق بين سريان دمشق أو سريان حمّص أو حلب الخ.
إنّنا أصحاب حضارة عريقة من الثقافة واللغة والأدب والفنّ وعلوم الطبّ والهندسة والموسيقى، وليس من الصواب أن نختزل هذا الإرث إلى مجرّد شعائر وطقوس وألحان كنسيّة دينيّة ورجال فكّر فقط من الإكليروس الحضارة السريانيّة هي هويّة وثقافة وتاريخ شعب قدّم للحضارة الإنسانيّة العالميّة الكثير.

 

خاتمة:

إنّ المؤسّسة الكنسيّة ليست في جوهرها مجرّد مؤسّسة مدنيّة أو مجتمع بشريّ، بل هي مؤسّسة روحيّة تعتمد تركيبتها وتعاليمها وعبادتها وقيمها الأخلاقيّة على اللّه والكتاب المقدّس والتراث التاريخيّ لشعب اللّه وقدّيسيه، فالكنيسة كمكان وكمؤمنين لا معنى لهما بدون هذا البعد الروحيّ العميق.
وبالتّالي، جميع الإكليروس والعلمانيّين يكونون خاضعين للّه بالطاعة والاتّضاع. لا يمكن اعتبار الكنيسة ملكاً للعلمانيّين أو الإكليروس بحدّ ذاتهم، فالكنيسة هي ملكيّة مقدّسة للّه نفسه.
فيها بعد روحي ومادّي، بعد عموديّ وأفقي، ولا تتعارض بين هذين البعدين. فالمبنى قد يكون مادّيّاً، ولكنّ الهدف الأسمى هو روحي. قد نؤسّس اللجان الخيريّة بأغراض مادّيّة، ولكنّ الهدف الأسمى لها هو روحي. حتّى أمسيات العشاء الّتي تقام، فإنّها تقام لهدف روحيّ.
لا يمكن تحقيق خطّة اللّه ومشيئته إلّا من خلال التعاون والتكامل والشراكة بين الإكليروس والعلمانيّين. إنّ التعاون المثمر بين هذين الجانبين يسهم في تطوير الكنيسة وتعزيز رسالتها في العالم. فلنعمل معاً لخدمة اللّه وتحقيق مشروعه الروحيّ بروح الشراكة والتعاون المستدام.

 

المصادر:

  • الكتاب المقدّس، العهد الجديد، سفر أعمال الرسل، طبعة دار المشرق، بيروت.
  • المطران بطرس مراياتي، “العلمانيّ في الكنيسة بين الأمس واليوم”.
  • غبطة البطريرك لويس ساكا، “العلمانيّون في الكنيسة: شركة وتعاون ووحدة”.
  • هاني لبيب، “العلمانيّون والكنيسة”.
error: