بيير سمعان جرجي


كلمة الإعداد

“من هجرة إلى هجرة”

في فكرة العمل ومناسبته ومحتواه

 

تُعدّ هجرة السريان من تركيّا إلى دول الجوار، مثل سوريا والعراق ولبنان وسواها من دول، من المحطّات التاريخيّة الهامّة الّتي شهدتها المنطقة. فقد ترك السريان موطنهم الّذي كانوا يعيشون فيه، نتيجةً لمجموعة من العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الهامّة، وحصيلةً لعمليّات التهجير وإبادة الأقلّيّات العرقيّة والدينيّة الّتي ارتُكِبت بحقّ هذا الشعب المسالم. وقد حظيت هذه الأحداث المؤلمة، بالاهتمام والدراسة من قِبَل العديد من الباحثين والمؤرِّخين خلال العقود الماضية.
كان الشعب السريانيّ الرهاويّ واحداً من تلك الأقلّيّات الّتي تعرّضت للتهجير، فقد ترك السريان الرهاويّون وطنهم في الرها (أورفة)، وهاجروا إلى حلب على ثلاث دفعات، بدءاً من شهر شباط، العامَ 1924.

ومع مرور مِائَة عام على هذه الهجرة، كان لا بدّ لنا، نحن أحفاد الأباجرة، أن نسطّر تاريخنا، وما شهدناه خلال تلك الفترة. يقدّم كتاب “من هجرة إلى هجرة” مع عنوانه الفرعيّ “مِائَة عام على هجرة السريان الرهاويّين من الرها” نظرة شاملة إلى تاريخ الشعب السريانيّ الرهاويّ على امتداد مِائَة عام (1924-2024)، حيث جرت فيها هجرة جماعيّة أُولى، وصولاً إلى هجرة محدودة أخيرة رافقت ما شهدته سوريا مؤخّراً من تطوّرات، حتّى لكأنّه قد كُتِب على الشعب السريانيّ أن يبقى منثوراً في الآفاق كالشهب في كبد السماء.
يحوي الكتاب مجموع دراسات، وأبحاث، ومقالات تأريخيّة، واستقصائيّة، وشهادات وانطباعات، دبّـجها رجال دين وعدد من أصحاب القلم والشخصيّات الفاعلة من أبناء مرعيث مار جرجس في مدينة حلب، ممّن لا يزالون فيها، أو ممّن غادروها، وتتناول، في مجملها، أحداثاً هامّة عاشها شعبنا السريانيّ، بالإضافة إلى فعّاليّات أقامتها المؤسّسات والجمعيّات الكنسيّة والاجتماعيّة خلال مِائَة عام.
يتضمّن هذا الكتاب أيضاً ملابسات هجرة السريان الرهاويّين، مُسلِّطاً الضوء على الأسباب الرئيسيّة الّتي دفعتهم إلى اتّخاذ هذه الخطوة الحاسمة، وكيف أثّرت في هويّتهم وتراثهم الثقافيّ والاجتماعيّ. هدف هذا العمل توثيقيّ بحت. فيكون في متناول الأجيال القادمة من أبناء الشعب السريانيّ، أو من المسيحيّين عامّة، أو سواهم من الباحثين المهتمّين بتاريخ السريان. تروي صفحات هذا الكتاب حكايات عريقة ومؤثّرة، تمزج بين الألم والأمل، وبين الشدّة والإصرار. إنّها قصّة شعب تجاوز العديد من التحدّيات والصعوبات للحفاظ على هويّته وعراقته وإيمانه في وجه التغيّرات الكبيرة الّتي شهدتها المنطقة خلال العقود الماضية.

شرعنا بتحقيق الفكرة قبل عامين ونصف العام تقريباً. كانت جهود متواصلة، وكان سبب اختيارنا العنوان “من هجرة إلى هجرة” الّذي ابتكره شمعون بيير جرجي، تصنيفنا، على نحو لا يقبل الشكّ، الهجرة الأخيرة هجرةً حقيقيّةً غادرت فيها قرابة 600 عائلة حيّ السريان بحلب إلى دول العالم، بعد أحداث الحرب العامَ 2011!

من جبل الرها المقدّس إلى تعدّد الهجرات الرهاويّة إلى استقرار الرهاويّين في حلب وعطاءاتهم المباركة في حيّ السريان: الكنيسة، والوطن، واللغة، والنهضة، والصروح، والعلوم، والفنون، والآداب، والأحداث، والعائلات، والمآثر الّتي تكلّلت بآيات الإيمان والرجاء والمحبّة… تكوّنت حصيلة من معطيات شائقة لم تُسلَّط عليها الأضواء من قَبل وينتظر معرفتَها الكثيرون. معطيات هي في اعتقادنا سمة فريدة من فخار لافت نرجو أن يحمله في قلبه ووجدانه شبابنا السريانيّ أينما كان وأينما حلّ.

ساهم في تأليف هذا الكتاب أصحاب فكر وقلم ممّن لهم باع في الكتابة والتأليف، أو ممّن عاصروا حقبة معيّنة، أو ممّن خدموا في الحقول الرعائيّة، أو الكنسيّة، أو الاجتماعيّة، أو ممّن ساهموا في أيّ شكل من الأشكال في مسيرة الشعب السريانيّ ومجتمعاته. ثلاثة وعشرون كاتباً وكاتبة تجاوبوا وسطّروا أجمل ما سطّروه من مقالات ودراسات وغيرها تعبيراً عن روح سريانيّة خالصة، بل أرسلوا أجمل ما في أرشيفهم من صور تذكاريّة ووثائق تستعيد اللحظات. ثمّة مراسلات تقنيّة كثيرة جرت تهيئةً للكتاب، وثمّة أفكار وعناوين جديدة ظهرت… تنسيق امتدّ إلى أبعد من حدود بلد واحد، وتجاوب فاق التوقّعات! ولعلّ هذا ما تستحقّه المناسبة الرهاويّة الغالية والغاية التوثيقيّة الوفيّة، ما أنتج في مجموعه شفافيّة عالية وأمانة في كلّ ما حواه الكتاب. وإذ كان من الطبيعيّ أن تكون هناك أحداث مشتركة وربّما وجهات نظر متباينة تُعبّر عن تطلّعات كلّ كاتب ورؤيته ورأيه الخاصّ، فالحقّ أنّ هذا التنوّع فسيفساء تُغني وتُزيّن وتُقدّم مجتمعةً أكمل صورة. لقد أدرجنا مشاركات السادة رجال الدين الأفاضل بدايةً ثمّ رتّبنا مداخلات السيّدات والسادة الكتّاب ألفبائيّاً وفق اسم العائلة. فألف شكر وتحيّة مجدّداً لكلّ المشاركين. (أدرجنا مسرد الأسماء في نهاية التقديم)
ونودّ أن نشير إلى أنّ ثمّة كتّاباً اعتذروا عن عدم المشاركة لأسبابهم الخاصّة، فالشكر موصول والتوفيق مأمول. ونعبّر أيضاً عن شديد أسفنا وحزننا لمَن افتقدناهم ونحن في طور إعداد هذا العمل، فشاركوا فيه ورحلوا عنّا قبل أن ترى سطورهم النور أو حتّى قبل أن يتسنّى لهم التعبير عمّا يختلج في قلوبهم وضمائرهم. رحمهم الله وأبقى ذِكرهم مؤبّداً.

يظهر “من هجرة إلى هجرة” في نسخته الرقميّة الأُولى، ويشمل في ما يشمل بيانات تساعد عائلاتنا السريانيّة الرهاويّة على اللقاء رغم المسافات، تشبّثاً بالجذور وتطلّعاً إلى أيّام مشرقة. إنّ اعتماد النسخة الرقميّة يسمح بإجراء أيّ تعديلات عليها أو إضافات إليها لاحقة. ويجعلها تندرج في الموقع الإلكترونيّ الّذي خصّصناه للمناسبة، إلى جانب التصوير الفيديويّ والمؤثّرات الصوتيّة ومفاتيح البحث المرافقة. والأمل مستقبلاً، إذا ما تيسّرت موارد الطباعة والنشر، أن تظهر طبعة ورقيّة لائقة، فتتمّ الفائدة. لقد وعدْنا أن يكون إطلاق الكتاب في 25 شباط 2024، تاريخ الهجرة الرهاويّة العامَ 1924، وأوفينا بالوعد على رغم المشقّات.

نشكر اللّه أوّلاً على أفضال نعمه ومواهبه الّتي أسبغها علينا بمحبّته وحنانه، طالبين رحمته وعونه دائماً في خدمة رسالتنا. كما نشكره تعالى على الوزنات الّتي يكلّفنا بها.
وإنّنا نتوجّه بالشكر البنويّ الخالص إلى قداسة أبينا مار إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك الكرسيّ الأنطاكيّ الرسوليّ والرئيس الأعلى للكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، حفظه الله، الّذي يدأب على دعمنا وبركتنا وتقديرنا في كلّ مشروع نتطلّع إلى تحقيقه. كما نشكر نيافة الحَبر الجليل مار بطرس قسّيس، مطران أبرشيّة حلب وتوابعها، وأيضاً نيافة الحَبر الجليل المطران مار كيرِلّس بابي، النائب البطريركيّ للمؤسّسات الخيريّة البطريركيّة في العطشانة بلبنان، لتصديرهما هذا الكتاب بأطيب العبارات وأوفى البركات.

ولا نبالغ إذا قلنا إنّ وراء كلّ كلمة في هذا الكتاب، ثمّة أُناس وجب أن نقدّم لهم الشكر والتقدير. فما أكثرهم! وما أعظم ما يستحقّونه من إكبار وإكرام! بدءاً من الآباء الروحيّين بمختلف درجات الإكليروس، والسيّدات والسادة الكتّاب المشاركين المقيمين في بلدان مختلفة، وصولاً إلى جميع أبناء الكنيسة، والرعايا، وأفراد العوائل، والأقارب والأصدقاء. مع تحيّة خالصة إلى كلّ لفتة أو بصمة، تركت أثراً في هذا العمل من خلال موقف، أو فكرة، أو كلمة. ونتوجّه هنا بشكر خاصّ إلى صديقنا الأديب الأستاذ جورج مراياتي الّذي واكبنا منذ البدايات في ما عزمنا عليه، وسخّر الوقت والجهد في سبيل إنجاحه. مع امتنان كبير لكلّ الوسائل الإعلاميّة والمراكز والهيئات الثقافيّة والمجالس الملّيّة والجمعيّات والمؤسّسات التعليميّة المنتشرة في أنحاء العالم والّتي لا تنفكّ تتعاون معنا من أجل نشر كلّ ما يتعلّق بشعبنا السريانيّ.
وفي النهاية، نودّ أن نكرّر شكرنا لجميع الأشخاص الّذين ضافروا جهودهم لغاية إنجاز هذا العمل الّذي هو مساهمة أُريدَ لها أن تكون مهمّة في توثيق تاريخ الشعب السريانيّ الرهاويّ وتراثه، وفي تسليط الضوء على الصعوبات الّتي واجهتها وتواجهها الأقلّيّات في الحفاظ على هويّتها وتراثها في ظلّ عديدِ التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة. وإنّنا نتمنّى أن يستمتع القرّاء الأعزّاء بما ضمّه هذا الكتاب، مع معرفتهم ماجريات تلك الفترة الحاسمة من تاريخ الشعب السريانيّ الرهاويّ العزيز.

بيير جرجي

السويد، في 25 شباط 2024

 

 

مسرد أسماء المشاركين:

• الأب الخوري منير بربر
• الأب الخوري شكري توما
• الأب القسّ جورج كلور
• الأب القسّ أنطوان دلي آبو
• الشّمّاس الإنجيلي الملفان عبد الكريم شاهان
• الشّمّاس الإنجيليّ الملفونو جورج قمر
• الشّمّاس الإكليريكيّ الملفونو جورج فريك
• الملفونو سمير بصمه جي
• الملفونيثو فريدة بولص
• الملفونو أفريم جورج بيشار
• الملفونو جوزيف بيشار
• الملفونو مارك توماس
• الملفونو بيير سمعان جرجي
• الملفونو ريمون جرجي
• الملفونو نعيم باسيل حمامجي
• الملفونو أنور خوري
•  الملفونيثو سارة حنّا دوغرامجي
• الملفونو جورج فهمي طحّان
• الملفونو عبّود منصور قريو
• الملفونو إبراهيم لحدو
• الملفونو جورج غسّان مقديس
• الملفونو يوسف مقديس أنطون
• الملفونو بيير هارون

 


 

الإهداء

• إلى أبناء أُمّتي السريانيّة الآراميّة.
• إلى أبناء أُمّتي السريانيّة الآراميّة الرهاويّة في حلب وبلاد الاغتراب.
• إلى الّذين جاهدوا جهاد الأبطال في سبيل رفع اسم الكنيسة عالياً.
• إلى الّذين سهروا الليالي الطوال، وأسّسوا، في إخلاص، المدارس والجمعيّات الخيريّة والثقافيّة والنوادي الرياضيّة والفرق الكشفيّة، وما يتبع لها.
• إلى الّذين بذلوا النّفس والنّفيس، وعملوا في هذه المؤسّسات بصمت كالجنديّ المجهول.
• إلى الّذين غادروا هذه الحياة الفانية: أنحني إجلالاً وأحفظ الذِّكرى ما حييت، والّذين هم على قيد الحياة: أشدّ على يدهم، وأسأل اللّه أن يمدّ في عمرهم، لإتمام رسالتهم الغالية في الحفاظ على إيمان شعبنا وهويّتنا وتراثنا.
أُهدي هذا العمل أيضاً إلى عائلتي، وأهلي، وأقاربي، وأصدقائي وجميع معارفي الّذين كانوا لي على الدوام خير داعم ومشجِّع.

 

error: