الملفونو بيير هارون 

كندا
وُلد الملفونو بيير هارون في حلب، سوريا، عام 1929، وكان الأكبر من بين خمسة أشقّاء. كان أوّل مهندس من مجتمعه السريانيّ، وعمل في العديد من البلدان. تزوّج في عام 1960، ورُزق بأربع بنات، ثمّ انتقل إلى مونتريال في عام 1971. كان راوياً بارعاً، يسلّي عائلته وأصدقاءه بحكاياته المسلّية والمفيدة. كان حبّه للتاريخ وخاصّة المعرفة السريانيّة، أمراً مثيراً للاهتمام. في سنّ المراهقة، أسّس نادياً مع أصدقائه لتشجيع اللغة السريانيّة. كان فاعلاً في الكنيسة الأرثوذكسيّة السريانيّة في مونتريال. كتب العديد من السير الذاتيّة وقصص العائلة مع أخيه. وهو محبوب من قبل أحفاده الخمسة وعائلته، تُوفّي في عام 2020. كتابه عن المحن والنجاحات الّتي عاشها السريان الذين أُخرجوا من أورفا في عام 1924 واستقرارهم في حيّ السريان ـ حلب، على وشك النشر.


عدد صفحات المشاركة 19 صفحة (A4) .

السريان والأرمن في مواجهة الإبادة

وصلت أخبار قتل مجموعات الأرمن النخبويّة في 24 أبريل 1915 إلى أركان الدولة العثمانيّة في لمح البصر، فأصبح غير المسلمين في حالة توتّر! كإجراء احترازيّ، خرج الأب قسّ بطرس (من عائلة أطماجا)، كاهن كنيسة مار بطرس وبولس السريانيّة، مع الشمامسة وأعضاء مجلس الإدارة، بتأرجح واضح نحو مكتب الوليّ، وهم يرتّلون أناشيد الكنيسة السريانيّة بصوت خافت جدّاً، ويحملون معهم نسخة من وعد عمر الّذي قدّمه للبطريرك صفرونيوس في القدس عام 638 م.

طلب الوليّ منهم قراءة الوثيقة عند باب مكتبه، لكنّهم رفضوا وشرحوا أنّ هذا النوع من الكتابة المؤثّرة والمحترمة يمكن أن يتعامل معها فقط أشخاص من مستواك. بعد قراءة الوثيقة بعناية، وعد الوليّ بسلامتهم! وفيما يتعلّق بالفرصة النادرة، أفادوا الوليّ بصراحة بأنّ السريان يعيشون أيضاً في أحياء الأرمن. ووافق الوليّ وأمر بإرسال جنديّين وعضوين من المجتمع السريانيّ لجلب السريان من الحيّ الأرمنيّ المحاصر. بدأ هذان العضوان يتحدثان باللغة الأرمنيّة، وحثّوا الأرمن على الذهاب معهم، قائلين “إنّنا سريان”! للأسف، رفض معظمهم، وسلّم القليل منهم أطفالهم للعناية بهم، حتّى يتمّ انتهاء هذه الكارثة. لسوء الحظّ، تفاقمت الأمور يوماً بعد يوم.

ترعرع هؤلاء الأطفال في عائلات سريانيّة بديلة. وبلغ بعضهم سنّ الرشد، وتزوّج فتيات أرمنيّات، وعادوا إلى كنيستهم الأرمنيّة، في حين بقي آخرون يخدمون كشمامسة وحتّى قساوسة، ولكنّ هذا الاتّفاق لم ينطبق على المدن الأخرى في البلاد الّتي يعيش فيها السريان. على الرغم من أنّ سريان أورفا نجوا لفترة وجيزة، إلّا أنّ القتلة من الأتراك وميليشياتهم من الأكراد بدأوا في نهاية الأمر بنهبهم، وشنق أصحاب المتاجر، والاعتداء على جيرانهم، واعتقال شباب المجتمع وذبحهم بسكّين الجزّار خارج المدينة، ثمّ رمي جثثهم في نهر قاراقوين.

العلاقة بين الأرمن والسريان في المدينة كانت وثيقة للغاية؛ حيث كانت الزيجات المختلطة شائعة جدّاً؛ وكانت هناك نادراً عائلة لا ترتبط بعائلة أرمنيّة أو العكس بالعكس. كانت اللغة الأرمنيّة الّتي يتحدّثونها متطابقة: لا توجد فروق في المفردات أو القواعد النحويّة أو اللكنة. كانوا يشتركون حتّى في الديانة نفسها، ‘المونوفيزيّة’.

نتذكّر عبارة الأتراك السيّئة الّتي كان يتداولها والدانا: عندما يكشف السريان هويّتهم، وأنّهم ليسوا أرمن! كانوا يقولون: “البراز هو البراز، فما الفرق بين الجديد والقديم؟”
الأرمن في المدينة قاتلوا بشجاعة كبيرة، وعندما نفدت ذخائرهم، بدأوا باستخدام مجوهرات عائلاتهم: الذهب والفضّة والنحاس (أدوات المطبخ)، إلخ.

قام الجنود الأتراك بالاشتراك مع الأوغاد الكرد لإجبار السريان على حفر الخنادق؛ وعندما رأى المقاتلون الأرمن الشجعان هذه الأحداث المؤسفة، تدهورت علاقتهم وبدأوا يسمّون السريان “أسوريّ شونيّ”، وهو يشير إلى “كلاب الآشوريّين” (لم يدركوا حينها أنّ السريّان أجبروا على هذا العمل القذر). تتلاشى هذه البرودة تدريجيّاً؛ فبعد كلّ شيء، يشتركون في تاريخ مألوف وشائع.

بالرغم من تدخّل الأسقف في إسطنبول والعرض المثير للإعجاب للقسّ بطرس الّذي قدّم “وعد عمر”، تمّ قتل أكثر من مئة شابّ في المجتمع السريانيّ في الرها (أورفا). بين فترة حكم حميديّة وعام 1915، حدثت الإبادة الجماعيّة بشكل متقطّع.

 

أسماء بعض الأشخاص الذين تعرضوا للقتل

نسرد لكم بعض الأسماء 1 الّتي تعرّضت للقتل، وهناك أسماء متكرّرة لأنّها تعود إلى عائلة واحدة (الأب):

أشور يوسف، جرجي إبراهيم أرسلان، عبدي أطماجة، ماتيوس أطماجة، يعقوب اسكيجي، إبراهيم بربر إبو، إلياس كالوس، أفرام ياندم، استيفان طاشجي، باسيليوس باسوس، زكريّا بلطة، بيدروس قبقولاق، بوغوص أفندي، بطرس آرتين بولص، بولص آرتين بولص، بطرس شاهان، بيدروس بيشار، برصوم زاغيك، بنيامين أوستا جابور، جرجي شمّاس، جرجي هادو، إبو جاطال، جرجي زكريّا، فتح اللّه شاطال، جرجي ترزّي سلطان، بطرس همّاج، عبّود قولاج، حنّا جولاق، داود جنجيل 2، سركيس قولان، عبّود شامو، شمعون جاي أغلي، صليباً برصوم، عبد المجيد تورو، عبد المسيح بوز، عبد المسيح مانو، عبد النور أودول، عبد المسيح تورو، عيسى مختار، عبّود فستقجي، جرجي فارتو، كرابيت كاتب، بيدو كنج، شمعون مقدسيّ، ميخائيل أوستا جبور، (؟) كالوس، سعيد هادو، موسى هادو، هابيل أوستا جبور، بدرو واكيل، برصوم يانديم، يوحنّا جرّاح، كيراكوز جرّاح، برصوم جرّاح، جورج جرّاح، جرجي سيوري (سيفري)، عبدي سيفري، برصوم سيفري، وانيس سيفري، يعقوب سيفري، عبد النور قسّ بطرس، جرجي ماردو، أروش آجي، جرجي حقو، عبد المسيح كسب، إسكندر إبراهيم، (؟) إيسوت، بهنام قباقولاق، إراميّاً صوجيّ، حنّا سنونو، يعقوب رسّام، يعقوب حمامجيّ، (؟) حمامجي، (؟) حمامجي، أكوب فستقجي. وغيرهم كثيرون.

 

الأب قس بطرس

وصلت أخبار مقتل مجموعة النخبة الأرمنيّة في 24 أبريل 1915 إلى جميع أركان الإمبراطوريّة العثمانيّة الأربعة في وقت قصير. أصبح غير المسلمين متوتّرين، وكإجراء احترازيّ، وفي يوم الأحد التالي بعد القدّاس، سار القسّ بطرس (من عائلة أطماجا) في كنيسة مار بطرس وبولس السريانيّة، مع الشمامسة وأعضاء مجلس الإدارة في شوارع أورهوي (أورفا)، وأنشدوا ترانيم الكنيسة السريانيّة بصوت منخفض باتّجاه مكتب الوالي، حاملين معهم على وسادة مخمليّة حمراء نسخة من “وعد عمر” الّذي أُعطي لبطريرك القدس صفرونيوس عام 638 م (الوثيـقـة العمريّـة).

وثيقة “وعد عمر” كتبها الخليفة الثاني للإسلام عمر بن الخطّاب، تضمن فيها سلامة أهل القدس والحفاظ على كنائسهم وممتلكاتهم. واليوم نسخة من هذه الوثيقة محفوظة في أرشيف كنيسة مارجرجس للسريان الأرثوذكس في حيّ السريان بحلب.

وطلب المحافظ من الأب بطرس أن يقرأ الرقّ على باب مكتب المحافظ، لكنّه رفض وأوضح أنّ شخصاً بمكانته فقط هو الّذي يستطيع أن يقرأ ويقرأ مثل هذه الكتابة المؤثّرة والموقّرة! وبعد قراءة الرقّ بعناية، وعد الحاكم بسلامتهم، وأبلغوا الوالي أنّ السريان يعيشون أيضاً في الحيّ الأرمنيّ. قَبِل المحافظ طلبهم، وأمر اثنين من رجال الدرك واثنين من أفراد الطائفة السريانيّة بإحضار هؤلاء السريان من الحيّ الأرمنيّ المحاصر.

تحدّث العضوان بتكتّم باللغة الأرمنيّة، وحثّوا الأرمن على الحضور معهم قائلين إنّهم سريان. ولسوء الحظّ، رفض الجميع تقريباً. قلّة قليلة سلّمت أطفالها للرعاية حتّى تنتهي الكارثة. ومن المؤسف أنّ الوضع كان من سيّء إلى أسوأ يوماً بعد يوم.

نشأ هؤلاء الأطفال في رعاية عائلات سريانيّة بالتبنّي. وعندما بلغوا سنّ النضج، تزوّج عدد قليل من النساء الأرمنيّات، وعادوا إلى كنيستهم الأرمنيّة. وبقي آخرون في المجتمع السريانيّ، وعملوا شمامسة وكهنة وأعضاء مجلس إدارة. ولم ينطبق هذا الترتيب على مدن البلاد الأخرى الّتي يعيش فيها السريان.

لقد تمّ إنقاذهم للحظات، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً. بدأ السفّاحون بنهب وشنق أصحاب محلّاتهم التجاريّة، والاعتداء على جيرانهم، واعتقال شباب المجتمع، وذبحهم بسكّين الجزّار خارج المدينة، وإلقاء جثثهم المقطوعة في واد نهر الديسان (القرقوين)!

وكانت العلاقة بين الأرمن والسريان في المدينة وثيقة جدّاً؛ كانت حالات الزواج المختلط متكرّرة. ونادراً ما كانت هناك عائلة سريانيّة لا تربطها صلة قرابة بعائلة أرمنيّة، والعكس صحيح. كان عدد سكان أورفة من الأرمن إلى السريان 70% إلى 30%. وكانت لهجتهم الأرمنيّة المنطوقة متطابقة، مع عدم وجود اختلاف في المفردات والقواعد واللهجة. حتّى أنّهم شاركوا في نفس الاعتراف بالمونوفيزيت.

نتذكّر عبارة الأتراك سيّئة السمعة من آبائنا عندما دافع السريان عن حياتهم، وكشفوا عن هويّتهم على أنّهم ليسوا أرمن. فقال البلطجيّة: “الشيت شيت. ما الفرق بين الجديد والقديم؟” لقد قتلوا رغم ذلك.

وقاتل أرمن المدينة بشجاعة شديدة، وعندما نفذت ذخيرتهم، أذابوا مجوهرات عائلتهم من الذهب والفضّة وأدوات مطبخهم النحاسيّة وغير ذلك.
الجنود الأتراك والقتلة الأكراد أجبروا السريان على حفر الخنادق. وعندما رأى المقاومون الأرمن هذه الأحداث المؤسفة، تدهورت علاقتهم، وبدأوا يطلقون على السريان اسم Assori shune، أي الكلاب السريانية.
ولم يدركوا أنّ السريان كانوا مجبرين على القيام بالعمل القذر تحت التهديد بالقتل. وهذا البرود يتلاشى بشكل متزايد مع مرور الوقت؛ ففي نهاية المطاف، فإنّهم يشتركون في تاريخ مألوف وسائد.
قام قسّ بطرس وآخرون بحفظ وجمع بعض الآثار البارزة من الكنيستين في أورهوي ليأخذوها معهم إلى حلب، عندما تمّ طرد المجتمع السريانيّ وتهجيره من تركيّا. كان سريان الرها فخورين به جداً.

 

المطران عبد النور الرهاوي

ولد عبد النور في 31 يوليو 1855 في الرها، وهو آخر أسقف في سلسلة أساقفة أورهوي. (يعتقد البعض أنّه كان من عائلة إيزوت). وكانت أبرشيّته ديار بكر (آميد بالسريانيّة / الآراميّة). كراهب شابّ، شغّل منصب الأسقف البطريركيّ في إسطنبول. تمّ ترسيمه رئيس أساقفة سنة 1896 على يد قداسة عبد المسيح الثاني، وعين على أبرشيّة مدينة ديار بكر القديمة وضواحيها. كان اسمه مار ديونيسيوس عبد النور الرهاوي.
المطران عبد النور الرهاوي
لقد خدم الرعيّة بضمير حيّ. وفي نهاية عامه الثامن عشر من الخدمة، اندلع الخلاف فجأة بين أبناء الرعيّة. فضّل معظمهم القدّاس الّذي سيقام باللغة الأرمنيّة، بينما كان مغرماً بحبّه للّغة السريانيّة. ولتهدئة الجماعة، نقله البطريرك مار عبد اللّه الثاني إلى أبرشيّة سوريا عام 1914، ثمّ عاد إلى ديار بكر في وقت لاحق. كان يتقن اللغات السريانيّة والتركيّة والأرمنيّة، لكنّه كان متوسّطاً في اللغة العربيّة.
وكان فضيلة عبد النور مولعاً بالمبالغة في القصص. وكذلك فعل شخص آخر، أبيهم دغان (ابن أبيح)، المشار إليه باسم أبيح في هذه القصّة. وفي أحد الأيّام، زار المطران موطنه أورهويّ من ديار بكر. وقد استقبله الأقارب والأصدقاء والمعارف، وقاموا بدعوته إلى منازلهم. وفي أحد المجالس سأل أبيح المطران عبد النور قائلاً: “سيّدنا، هل صحيح أنّ ديار بكر مدينة شديدة البرودة؟” فأجاب عبد النور: “نعم هذا صحيح. تخيّل أنّ مسكني عبارة عن غرفة داخل غرفة أخرى. وفي الفضاء بين الجدران الخارجيّة والداخليّة، نرعى الماشية. وفي أحد الأيّام، كنت جالساً بالقرب من موقد الحطب وأنا أقرأ، عندما طلبت من مساعدي كوباً من الماء. وضع الكأس على الموقد، لكنّني لم أشربها على الفور. بعد فترة، حاولت الوصول إلى الكأس، لكنّها لم تتحرّك. لقد التصقت بالموقد. برودة الغرفة حوّلت الماء الموجود في الكوب إلى ثلج.”
أومأ أبيح برأسه متفهّماً وقال: “نعم، سيّدنا، في نفس اليوم البارد في أورهوي، كانت قطّتنا تقفز من حائط عبر الشارع إلى حائط آخر عندما تجمّدت في الهواء. بعد بضعة أشهر، مع ارتفاع درجة الحرارة فجأة، عدت إلى المنزل من السوق بعد شراء بعض الأشياء عندما خرخرت القطّة المجمّدة ونهضت لتكمل قفزتها إلى الحائط التالي. نظرت إلى سلّتي، مندهشاً لرؤية الباذنجان يصدر أصوات طقطقة، ويُطهى بحرارة الشمس.

 

الأسقف تيموثاوس بولس إيرونور

ولد بولس إيرونور في سيفيريك، تركيّا. انتقل إلى الرها وهو لا يزال طفلاً. بدأ بالعمل. بعد إنهاء تعليمه الرسميّ والدينيّ، تزوّج، ثمّ رسمه الأسقف المطران غابرييل لأبرشيّات الرها كاهناً في عام 1862.
خدم في أورهوي وأضنّة. توفّيت زوجته أثناء ولادة ابنهما، لكنّه لم يتزوّج مرّة أخرى. فيما بعد، في عام 1887، رُسم أسقفاً مطرانيّاً على يد البطريرك بطرس الثالث كأسقف بطريركيّ لإسطنبول. كان يطلق عليه لقب أوسقوف بدلاً من أسقف؛ لأنّه كان متزوّجاً مسبقاً. خدم هناك لأكثر من 25 عاماً، وتوفّي في 9 فبراير 1914. دُفن في وضعيّة الجلوس على كرسيّ يشبه العرش خارج جدار الكنيسة السريانيّة في إسطنبول، مواجهاً المذبح.
الأسقف تيموثاوس بولس (بولإيرونور)
كان يمتلك مجموعة مثيرة للإعجاب من المخطوطات السريانيّة الّتي مرّرها إلى ابنه فهيم إيرونور بك. اختفت نصف القطع، بما في ذلك السجلّ الزمنيّ لعام 1234. تمّ الحصول على تسع مخطوطات في الستّينيّات من قبل المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، ومكتبة بينيك للكتب النادرة والمخطوطات. لم يتمّ طباعة سيرته الذاتيّة الّتي كتبها في عام 1912، ويبدو أنّها ضاعت الآن.
جعل السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) مفتي السلطنة يجلس على يمينه ومار تيموثاوس بولس إيرونور يجلس على يساره خلال الأحداث الّتي شهدت حضور قادة العالم. فعل ذلك ليظهر للوفود الغربيّة أنّه ليس ضدّ المسيحيّين. كان ذلك مجرّد للعرض، وليس لأنّه كان يهتمّ بالمسيحيّين. حدثت مجازر الحميديّة (1894-1896) تحت حكمه، ومن هنا جاء الاسم.
حاول مار تيموثاوس أن يحمي أهل الرها من المجازر بالتوسّل إلى السلطان بأنّهم عائلته. لكن للأسف، على الرغم من أنّهم لم يتعرّضوا للأذى لفترة قصيرة، إلّا أنّ ذلك لم يدم طويلاً، وأصبح سكّان الرها هدفاً لعمليّات القتل أيضاً.

 

 فهيم بطرس إيرونور بك

فهيم إيرونور بك هو ابن مارّ تيموثاوس بولس إيرونور، الأسقف البطريركيّ في إسطنبول. سُمِّي بيتر (بطرس) عند ولادته، وبعد ذلك، عندما أصبح بالغاً، حصل على لقب “بيه” كعربون تقدير من الحكومة العثمانيّة (مثل بيك). وفي أحد الأيّام اصطحبه والده لزيارة السلطان عبد الحميد الثاني (حكم: 1876-1909) عندما كان طفلاً. سأل السلطان بوتروس بعض الأسئلة النظريّة. وقد أُعجب السلطان بإجاباته الشجاعة، والتي تدلّ على ثقافته ومعرفته، لدرجة أنّه طلب من والده أن يسمّيه فهيم، أي ذكيّ باللغتين العربيّة والتركيّة.
تخرج من مدرسة غلطة سراي الثانويّة في إسطنبول، وأُرسل إلى فرنسا لمواصلة تعليمه. عيّنه السلطان وحيد الدين (حكم: 1918-1922)، المعروف أيضاً باسم محمّد السادس، رئيساً للتشريفات في قصر السلطان بإسطنبول.
وبحلول القرن السادس عشر، كان العثمانيّون قد أكملوا سيطرتهم على المنطقة. ولم يتمّ الاعتراف بكنيسة المشرق والكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة كطائفتين رسميّتين، وكثيراً ما كانا يمثّلان في الباب العالي من قبل الأرمن الّذين حصلوا على هذا الحقّ. واستمرّ هذا الوضع حتّى أواخر القرن التاسع عشر. وكان فهيم إيرونور فعّالاً في إقناع السيادة بفصل الكنيستين الكلدانيّة والسريانيّة الأرثوذكسيّة عن الأرمن.
تمّ إرساله إلى الهند كسفير للحكومة العثمانيّة ثمّ إلى إثيوبيا حيث أصبح صديقاً للإمبراطور هيلا سيلاسي (حكم: 1930-1974). لقد اصطادوا الأسود معاً. كان يتحدّث سبع لغات تقريباً.
في أثناء الدراسة في كلّيّة روبرت في إسطنبول، قام بيير أ. هارون وريموند سيفري (سيوري) بزيارة فهيم بوتروس إيرونور بك في منزله (كان هو وزوجته)، وأهدوه حبوب البنّ المحمّصة من حلب. كنت سعيداً بالهديّة حيث كان هناك قيود على استيراد القهوة في تركيّا في ذلك الوقت.

 

يوحنّا بيدروس هارون: مؤسّس أوّل ميتم سريانيّ في أضنة، تركيّا

ولد يوحنّا في عام ١٨٩٦ في أورهوي (أورفا) بعد المجازر الحميديّة (١٨٩٤/١٨٩٧). كان والده حائكاً ينحدر من عائلة ساهمت بإعطاء الجالية السريانيّة العديد من الأساتذة والشمامسة والكهنة والخطّاطين والإداريّين. انحدرت والدته لوسيا من عائلة الأجاجي المؤمنة. كان أخوه هو عبد النور هارون. تلقّى يوحنّا تعليمه الابتدائيّ في مدرسة الجالية السريانيّة في أورهوي حيث كان عمّه يعقوب إبراهيم هارون الّذي كان يُعرف باسم (يعقوب خوجة)، أستاذاً وخطّاطاً رائعاً3.

يوحنّا بيدروس هارون

تابع يوحنّا دراسته المتوسّطة في المدرسة الحكوميّة المحلّيّة. تمّ اختيار طلّاب آخرين لمتابعة دراستهم الثانويّة في أضنة، تركيّا. تمّ تجنيدهم بعد التخرّج وإرسالهم إلى الأكاديميّة العسكريّة في إسطنبول، وتمّ تدريبهم كضبّاط (برتبة ملازم كوشيك ضابط) وأرسلوا إلى الجبهة في غاليبولي تحت إمرة كمال باشا. غالباً ما وصفه كمال باشا بأنّه مدفعيّ دقيق التصويب قائلاً أحضروا لي ذاك المدفعيّ الأورفليّ. هزم الجيش العثمانيّ القوّات البريطانيّة والفرنسيّة معاً. بعد الانتصار في غاليبولي، قاموا بنقله إلى منطقة الأناضول الجنوبيّة الوسطى من أجل الأمن الداخليّ. كان من واجبه الأوّل كضابط غير محارب هو إلقاء القبض على. رئيس عصابة كان يقوم بتعكير سلام المنطقة.

يصل مع سرّيّته، ويستكشف المنطقة أوّلاً. يقوم في أثناء الاستكشاف بسؤال أحد العابرين عن أحوال قائد هذه العصابة، فيخبره بأنّه في بيت المختار. يقرع باب المختار لسؤاله عنه، فينكر المختار معرفته بوجود مثل هذا الشخص أو أحواله. يتظاهر يوحنّا بأنّ مهمّته قد أنجزت وبالعودة إلى مقرّه. يرجع خلال ٢٠ دقيقة عائداً إلى بيت المختار يقوم المختار وقائد العصابة وأعوانه بإطلاق النار.
يقتل في نهاية الأمر زعيم العصابة وعدد من رفاقه. يقوم آمر القاعدة باستجوابه: “من قتل زعيم العصابة، أنت؟ “أين هو حزام المال “فيجيب سيّدي “أفندم “لقد قاموا بإطلاق النار أوّلاً، فرددنا على النار بالنار. لا أحد يعلم من قتل من ولا فكرة لديّ عمّا تتحدّث.

لم يكن يمتلك شيئاً عندما كنّا نتفحّص فيما إذا كان قد مات. “مع ذلك قاموا باحتجازه في المهجع من أجل المزيد من التحقيق. قدّموا بعد يومين أمراً بالإخلاء مجرّداً من التوثيق. يقوم يوحنّا بالسفر بواسطة أيّ وسيلة سفر متاحة للوصول إلى الساحل إلى مدينة مرسين البحر الأبيض المتوسّط عن طريق أضنة. يقوم باعتلاء مركّب متّجه إلى بيروت لبنان وهو ما زال يرتدي اللباس العسكريّ التركيّ دون أزرار على سترته. يقوم الضابط الفرنسيّ في ميناء بيروت باحتجازه وسجنه كجاسوس. لا نعلم كيف تمّ ذلك.

دار الأيتام السريانية في أضنة 1920. يوحنا هارون بالزي العسكري، وعن يمينه عزيز تشيليكو

سرعان ما جرت معرفة خبر اعتقاله من قبل كلّ سريانيّ في المدينة. يصل إلى مسامع الشيخ من آل الزعبيّ (وهو عمّ المعلّم سمعان) خبر اعتقال يوحنّا. يذهب الشيخ من آل الزعبيّ بسرعة إلى رئيس الأساقفة السريانيّ الكاثوليكيّ، ويقول له “بما أنّني اعتنقت الكاثوليكيّة، ودفعت ما يتعيّن عليّ دفعه، ولم أطلب شيئاً مقابل ذلك أسألك البرهان على علاقتك الجيّدة مع السلطات الفرنسيّة لإطلاق سراح ابننا. “يوافق الضابط على إطلاق سراح يوحنّا فقط بعد منتصف النهار. بينما كان السيّد زعبيّ ينتظر في الممرّ لاحظ وجود ساعة على الجدار تشير إلى الساعة 11:10٠. يعتلي كرسيّاً، يفتح غطاء الساعة ببطء، يقدّم عقرب الساعة لتشير إلى: 12:6. يقرع باب المكتب، ويخبر الضابط بأنّها الساعة الثانية عشرة. يبتسم الضابط بسرور ويطلق سراحه.

إنّ عائلة الزعبيّ هي من بين أوائل العائلات في أورهوي. الّتي اعتنقت الكاثوليكيّة. كان السكّان الفرنسيّون والكاثوليك في الشرق على علاقة جيّدة. يعلم يوحنّا وهو في بيروت بأنّ الجيش الفرنسيّ كان يجنّد ضبّاطاً. لذا قام بتقديم طلب، وتمّ قبوله في الخدمة العسكريّة كملازم، وأرسل للانضمام إلى قوّات البعثة في كيليكيا بعد هدنة عام ١٩١٨. كانت واجباته الأوّليّة هي الإشراف على المدارس المسيحيّة والمياتم في أضنة.

لفت وجود عدد كبير من الأيتام السريان نظره إلى الميتم الأرمنيّ الّذي تمّ إنشاؤه من جانب السلطات الفرنسيّة. اتّصل بالمشرف عليه، وشرح له الوضع. استفهمت السلطات الفرنسيّة فيما إذا كان لدى الجالية منشأة، وفيما إذا كانت لديها الموارد الماليّة والوسائل الإداريّة لتحمّل مسؤوليّة إدارة ميتم منفصل. حمل على عاتقه المسؤوليّة الإداريّة، وقدّمت المنظّمة الأبنية، وقد قامت عائلتا شكرو وسعدون آغا بتأمين الدعم الماليّ. وهكذا دفعت السلطات الفرنسيّة كلّ المصاريف، رواتب الهيئة التدريسيّة والموظّفين الّذين كانوا يقومون بصيانة الأبنية وكذلك الزيّ الموحّد، وقامت الجالية السريانيّة بتغطية المصاريف اليوميّة. كان الأساتذة هم: المطران دولاباني، الشمّاس ملكي، إبراهيم حقّ فردي، وعيسى أفندي. كان من بين الطلّاب يسوع صموئيل، ملفونو غابرييل، (رئيس إدارة ميتم بيروت)، السيّد غطّاس، والكثير غيرهم ممّن عملوا في لبنان وسوريا وفلسطين كأساتذة بعد التخرّج.

بناء على قول رئيس الأساقفة يشوع صموئيل، فقد أصرّ على أن تتمّ مخاطبته ‘بالسيّد جان لا بيوحنا. تواصل الراهب يوحنّا دولاباني مع مجلّة “ بيت نهرين “ وتحدّث بأريحيّة عن الشابّ الأورفليّ في الجيش الفرنسيّ. إنّ أسماء يوحانون، يوحنّا، حينانيس وجان هي من نفس الأصل .

أعلن الأرمن في عام ١٩٢٢ إنشاء جمهوريّة كيليكيّة الأرمنيّة. عين يوحنّا وزيراً للتعليم في هذه الحكومة الأرمنيّة المؤقّتة. سرعان ما قامت السلطات الفرنسيّة بقمعه واستجابته حول مشاركته في الحكومة الأرمنيّة المؤقّتة. تمّ إقناع السلطات بمساعدة الكاهن السريانيّ المحلّيّ بأنّ تسميته كانت غيابيّاً دون موافقته. استبعدوا ذريعة الجيش بالارتباط السياسيّ.

وفي سوريّة أصبح أستاذاً للّغة الفرنسيّة في المدارس الثانويّة التابعة لوزارة التعليم في حلب، كما أعطى دروساً خصوصيّة باللغة الفرنسيّة لبضعة قضاة رئيسيّين في سلك الشرطة. وغيرهم من الوجهاء. نُقل بعد ذلك إلى إدلب، وفي عام ١٩٢٤ تزوّج من الآنسة نظلة تشيليكو وهي البنت الكبرى للسيّد بطرس تشيليكو من أضنة، وهو من أكثر داعمي سائر نشاطات الجالية السريانيّة في أضنة. غادر حلب مع عائلته الصغيرة في عام ١٩٢٦، وانتقل إلى مصر. حيث أسّس عملاً مع ابن حميه موسى تشيليكو. وعند وجوده في مصر كان على القدر نفسه من الانشغال بشؤون الجالية السريانيّة. رُزق بثلاثة أبناء وابنه. (فؤاد، فهمي، فريدة وفريد) وفّر لهم تعليماً جيّداً. لسوء الحظّ أنّه، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من أهل أورهوي، فقد توفّي باكراً فجأة في عام ١٩٥٣ في القاهرة، مصر. كان طليقاً باللغة التركيّة والفرنسيّة والأرمنيّة وأكثر من مقبول باللغة العربيّة.

 

عبد النور بدروس هارون (كيشيش أوغلو)

ولد عبد النور عام 1889 في أورهوي (أورفا / – شانلي أورفا حاليّاً). كان والده حائكاً من عائلة قدّمت للطائفة السريانيّة العديد من الإداريّين والمدرّسين والخطّاطين والشمامسة والكهنة ومطران. والدته لوسيا تنحدر من عائلة ألاجاجي المتديّنة. كان شقيقه الأصغر يوحنّا بدروس هارون، مؤسّس دار الأيتام السريانيّة في أضنّة، والّتي انتقلت فيما بعد إلى بيروت، لبنان، في أوائل عام 1919. سُمّي عبد النور؛ لأنّه وُلد في عيد الفصح، وبعد المطران عبد النور، حيث أقام في منزلهم في أورهوي في مناسبات عدّة. مار أسطاؤس عبد النور الرهاوي هارون “كشيش أوغلو”. مطران القدس. وفي وقت لاحق، تبدّل إلى غريغوريوس، كما يُسمّى تقليديّاً جميع المطارنة في القدس.

عبد النور بدروس هارون

تلقّى عبد النور تعليمه الابتدائيّ في المدرسة الطائفة والمتوسّط في المدرسة المحلّيّة. أنهى الدراسة في كلّيّة المركزيّة الأمريكيّة في عينتاب عام 1908 مع صديقه إبراهيم فاضل. لأسباب صحّيّة توقّف عن مواصلة التعليم بهدف الطبّ.

السيّدة البطلة، الآنسة كورينا شاتوك (1848-1910)، مبشّرة أمريكيّة وجدت عائلة أمريكيّة لتمويل تعليم عبد النور. كان معرفته واسعة داخل حدود الإمبراطوريّة العثمانيّة وحول العالم الخارجيّ، بما في ذلك التاريخ والسياسة والماليّة وما إلى ذلك. وقد سخّر وقت فراغه كطالب داخليّ للمطالعة. كان يقرأ الصحف والمجلّات المتوفّرة في مكتبة المدرسة، بما في ذلك الكتب، في أوقات فراغه.
في سنّ مبكّرة، ظهرت آثار القيادة في جميع أنشطته؛ كونه في الفصل الدراسيّ، ذكيّ جدّاً، ودائماً الأوّل، فقد تفوّق على جميع أصدقائه، حتّى في الألعاب.
كرّس عبد النور سنوات عديدة لخدمة مجتمعه، أوّلاً كمدرّس في أورهوي ثمّ كرئيس مجلس مليّ لحي السرياني في حلب، سوريا لعدّة دوّارات. وفي عهده تمّ تأسيس وبناء كنيسة مار جرجس في حيّ السريان والمدرسة المجاورة لها.

عموماً لم يثق في ادّعاءات الدول العظمى بحماية الأقلّيّات في الدولة العثمانيّة! مثل الروس الّذين زعموا أنّهم حماة الأرثوذكس. الأمريكان والإنجليز والبروتستانت. لم يتمكّن الفرنسيّون من العثور على أيّ أقلّيّات لحمايتها، لذلك أنشأوا واحدة! وبدعم من قنصليّتهم وسفرائهم، استهدف اليسوعيّون والفرنسيسكان والكهنة والرهبان والمبشّرون اللاتينيّون العائلات المحتاجة والمحرومة من الطوائف الأرثوذكسيّة، السريان والأرمن، من خلال توفير فرص العمل والتغذية الواعدة.
بدأ الأشخاص اليائسون والعاجزون في قبول هذه العروض، وتحوّلوا إلى الكاثوليكيّة. وكانت المفارقة أنّ آباء وأجداد هؤلاء الأشخاص أنفسهم رفضوا الإسلام! علاوة على ذلك، فقد فضّلوا الموت بالذبح أو الحرق أحياء على التخلّي عن عقيدتهم وقناعتهم وانتمائهم العرقيّ.
ولم يخدموا مسيحيّي الشرق، بل على العكس من ذلك، فقد مزّقوا كلّ منهم إلى طوائف عديدة: الكاثوليكيّة، والبروتستانتيّة، والمبتكرات الأمريكيّة الجديدة. (شهود يهوه، الخ.)
كان يتقن قراءة وكتابة اللغة التركيّة (العثمانيّة)، والأرمنيّة، والإنجليزيّة، وكان أكثر من ابتدائيّ في اللغة السريانيّة، ويتقدّم في اللغة العربيّة.
رحل بسلام عن هذا العالم سنة 1966 في بيروت بلبنان، وانضمّ إلى أجداده. كان لديه أربعة أطفال، صبيان وفتاتان. (بيير، جورجيت، يعقوب، ولوريس)
لم يكن مسيحيّو الإمبراطوريّة العثمانيّة موضع ثقة، وبالتّالي لم يتمّ تجنيدهم في الجيش، لكنّ المسلمين كانوا.

لقد استيقظت أغلب الدول في مختلف أنحاء العالم من الكسل، بعد أن تعرّفت على المثل الثوريّة الفرنسيّة: الحرّيّة، والمساواة، والأخوّة. أسّس الضبّاط والمعلّمون العثمانيّون الشباب حركة “تركيّا الفتاة”. من المفترض أن يصبح الجميع مواطنين من الدرجة الأولى، ويتمّ تجنيد كلّ ذكر في الجيش.
عمل عبد النور مدرّساً في أورهوي (شانلي أورفا) وقام بتدريس العلوم في مدارس الكنيسة للطوائف السريانيّة والأرمنيّة والبروتستانتيّة؛ تمّ تجنيده في الجيش التركيّ، وأُعْطِي زيّاً عسكريّاً وبندقيّة دون ذخيرة ولا تدريباً. كانت مهمّته الأولى هي تسليم كمّيّة كبيرة من النقود الورقيّة إلى مدينة مجاورة برفقة جنديّين أرمنيّين، مع أوامر صارمة باتّباع طريق محدّد.

ويقيّم هذا الوضع، متأمّلاً في ثلاثة مسيحيّين، ومبلغاً هائلاً من المال (كما يقولون)، وطريقاً مخطّطاً مسبقاً! في الصباح، أُعطى عربة ذات سطح مسطّح يجرّها بغلان، جعل أحد الجنود يجلس على كيس الخيش المملوء بالمال، والآخر بجانبه، يوجّه البغال. وبعد ساعة أو نحو ذلك، أمر الجنديّ بالانحراف وتغيير المسار والابتعاد عن الطريق المحدّد قدر الإمكان. ولدى وصوله وقبل تسليم الحمولة، وبّخه آمر المركز شفهيّاً: “لماذا لم تتبع التعليمات المعطّاة لك؟ لقد بحثنا عنك في كلّ مكان؟” يجيب بتحكّم وثقة تامّتين: “أنا جديد في هذه المنطقة وفقدت الاتّجاه”.

وبعد ذلك تمّ نقله إلى مقرّ قيادة الجيش بحلب بصفة كاتب. لقد كان يتقاسم المكتب مع مسلم تركيّ، يُفترض أنّه يقوم بنفس المهمّة التي يقوم بها! العلاقة بين هذين لم تكن ودّيّة. أوّلاً، كان التركيّ يأتي متأخّراً إلى المكتب؛ ثانياً، يجعله يقوم بعمله؛ وثالثاً، مخاطبته دون توقّف باعتباره كافراً، ونعوت آخر. ومع ذلك، فإنّ الضابط التركيّ يخبره بالكفّ مراراً وتكراراً عن سلوكه دون جدوى!
كان سعيداً جدّاً بنقله إلى جبهة قناة السويس بصفته كاتب فوج (alay katipi) المتمركز في بئر السبع، مسؤولاً عن المؤن، وكان الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة، وأكثرهم من الجنود الأكراد، إذ كان يكتب ويقرأ رسائل عائلاتهم وأصدقائهم.
في وقت من الأوقات، لم يتمكّن الجيش من توفير الغذاء بانتظام؛ وبعد ثلاثة أيّام وزّعوا حفنة من الدقيق على كلّ جنديّ. سأل الجنود من عبد النور: ماذا يمكننا أن نفعل بهذا الطحين؟ طلب عبد النور من اثنين من الجنود جمع كلّ الدقيق الموزّع، وذهب إلى أقرب قرية؛ من حُسن الحظّ وجد امرأة عربيّة تخبز لهم. يمسك بالرغيف الأوّل، ويستأذن بصلة من سلّة موضوعة في الزاوية، ويسحقها بضربة واحدة، ويرشّ رشّة ملح. وكانت تلك الشطيرة قصّة تتكرّر من وقت لآخر عندما تكون المناسبة مناسبة؛ “أفضل شطيرة أكلته على الإطلاق.”

وفي بئر السبع، كان الطبيب يعتني بالجنود الّذين يعانون سوء التغذية بأدوية محدودة وأدوات طبّيّة غير مناسبة. وفي أحد تلك الأيّام، شعر الجنديّ (سركيس شمّاس/ مهاجر) من أورهويّ بعدم الارتياح. نصحوا أصدقاءه بمراجعة الطبيب. الطبيب يشخّص مرضى التيفوئيد، قد يموت في أيّ لحظة، لكنّه يطلب منه العودة إلى أصدقائه وإعداد الكبّة الشهيرة (Hum kifta) بكمّيّة سخيّة من الفلفل الأحمر الحارّ. (kudzu karmir isot) فأكلوا الكبّة، وشربوا العرق، حتّى ناموا في مكانهم. كان سركيس نشطاً مثل رفاقه في اليوم التالي: لم يكن هناك تيفود أو أعراض.

وفي أحد الأيّام، وصلت أنباء أنّ الجيش قد استعاد قناة السويس من البريطانيّين؛ احتفل الجميع وأطلقوا النار في الهواء، وصرخوا (ألدك ألدك) أخذناها، أخذناها بالتركيّة. جنديّ كرديّ يقول له: “يا أفانديم، أنت أيضاً احتفل”. كانت تلك هي المرّة الأولى والأخيرة الّتي أطلق فيها النار كجنديّ.

في عام 1915، حدثت مجاعة كبيرة في لبنان، مخطّط من السلطات العثمانيّة، ممّا دفع فرقته إلى التحرّك إلى زحلة. وفي طريقهم إلى زحلة، أخذ إجازة لمدّة يومين وزار القدس، وسار على خطى يسوع من محطّة إلى أخرى، ورسم وشماً على ذراعه اليمنى فوق معصمه مباشرة: صليب وتاريخ زيارته.
وفي يومه الثاني، زار دير مارّ مرقس، وعرّف نفسه إلى المطران المسؤول. ففرح المطران وأخذه وأراه صورة ابن عمّه البعيد المطران عبد النور الرهاوي كشيش أوغلي أهرون والعصا الأبويّة العاجيّة الّتي أهديت له في الهند.

خارج الدير، التقى بعدد من شباب بلدته وهم يتجادلون. أحد الجنود حاصل على تصريح من المكتب الرئيسيّ لزيارة مسقط رأسه، أورهويّ. وصديق الثاني يطلب (بطرس بصمه جي) استعارة هذا التصريح. وفي نهاية المطاف، بعد جدال طويل، امتثل. أوّلاً، ذهب إلى نقاش وينسخ الختم. ثانياً، يطلب من عبد النور نسخ نصّ التصريح على الورق. ثالثاً، يقوم بختم الختم قدر الإمكان في المكان الصحيح. ينظر ضابط المقرّ بشكل مسل ويقول: “لم تر فاتك منذ فترة طويلة، أليس كذلك؟ أومأ الجنديّ بالموافقة. يلتقي بأصدقائه ويلوّح بالتصريح ويقول: “لقد أخبرتكم لنذهب معاً”.

فاطمة هو اسم بنت النبيّ العربيّ وفطمة هي كما ينطقها الأتراك، ولكن في كثير من الأحيان، يقال فاطك كما في المهزلة، في زحلة، انتهت الأربع سنوات من الخدمة. يسافر من زحلة إلى حلب وأورفا كمدنيّ. وفي يوم الأحد الأوّل بعد وصوله، ارتدى بدلته الجديدة وقميصه الأبيض وربطة العنق (الّتي تمّ شراؤها من حلب). يحضر القدّاس في كنيسة القدّيس مار جرجس، ثمّ ينتقل بعد ذلك إلى المقهى للقاء معارفه.
في طريقه إلى منزله يخاطبه مسلم تركيّ بازدراء: “انظر! انظر! الى جارنا، يعتقد أنّه أصبح (أفندي) رجلاً نبيلاً؛ لأنّه ارتدى بدلة وربطة عنق؛ كافير، ابن كافير، تعال وأحضر لنا دلاء من الماء من البئر.”
ولم يستطع أن يقول لا وأجاب الطلب التركيّ. وعندما أمره بالتوقّف، كانت بدلته وقميصه وربطة عنقه وطربوشه وحذائه مبلّلة بالماء.
وعندما رأى والده ابنه الأكبر في هذه الحالة البائسة، لم يستطع إلّا أن يقول: “نظّف ابني، واذهب صباح الغد إلى حلب، حيث لا تتعرّض للإهانة أو الإذلال، هذه هي الطريقة الّتي تعاملت بها ورحّبت بها، أيّها المخضرم في الحرب”. هذا الجزء من البلاد! كانت تلك آخر مرّة له في أورهوي. لم يعد أبداً، ولم يظهر أبداً الحنين إلى الماضي.

الحواشي

  1. تمّ نقل الأسماء عن طريق سمير قاطرجي وجمعها، وأعدّها أمين لوقا.
  2. العمّ الأبويّ لماجدة جنجيل، زوجة عبد النور هارون. باع ابنه السيف والوسام لأحد المتاجر القديمة في بيروت.
  3. هذ المقال من ترجمة مرسيل الخوري طراقجي
error: